أحيانا ينتابك شعور أن الاحتراف في كرة القدم ، ما هو إلا كذبة كبيرة صدقناها جميعا ، وأن ما لدينا ليس له صلة بالاحتراف أو الهواة ، بقدر ما هو كرة قدم تمارس بالحواري بقوانين ساذجة إن لم أقل غبية تبدأ بـ (الي يجيب الكورة يلعب) وتنتهي بـ (لعبوني والا أخرب) ، وهذا ما يحدث في الأندية الكبيرة الآن .
وسنأخذ موضوع الجمعان الجاني وقت المباراة وبعد ضياع الكأس ، والمجني عليه الآن أو ضحية (البلوي) الذئب البريء من دم (يوسف) .. كنموذج لنرى هل الاحتراف كذبة كبيرة .؟
قبل المباراة بيوم وضع المدرب التشكيل الأساسي للفريق وكان الجاني (الجمعان) خارج التشكيل ، فسأل المدرب (أفهم من هذا أنني احتياط) ، فأكد له المدرب أنه لا يستطيع إشراكه بسبب تغيبه ، وأن إشراكه رغم التغيب سيهز شخصيته أمام اللاعبين ولن يحترموا قراراته ، خرج الجمعان من المعسكر رغم محاولة البعض ، وكاد أن يتعدى على لاعب حاول إقناعه .
خرج الجاني (الجمعان) من المعسكر .. فخرجت الصحف في صباح اليوم الثاني تعلن عن هروبه ، وبدأ الجميع يتكلم عنه (كمجرم مباراة) ، وبدأت التهم ترافقه إلى أن ضاع الكأس ، بعد ضياع البطولة نشرت إحدى المنتديات (قائمة) بأسماء المسافرين على طائرة خاصة ، وكان من ضمنها (البلوي ، الجمعان ، العويران الذي يصر على أنه سمسار فيما هو "بودي جارد" لأغنياء) .. فتحول الجاني (الجمعان) إلى مجني عليه/ضحية (البلوي) .
وتحول الرأي العام إلى الهجوم على البريء (البلوي) ، أقول بريئا لأنه لم يرتكب خطأ يعاقب عليه القانون ، فهو أي (البلوي) رغم أنه يملك مركب نقص كبير ، وميزته الوحيدة في الحياة أنه خرج للعالم ليجد أنه يمتلك مئات الملايين ، فحاول أن يوجد لنفسه قيمة ، فربط نفسه بنجوم الكرة والفن ليشعر بوجوده .. ومركب النقص ليس جريمة يعاقب عليها القانون ، وإلا سنحاسب كل شخص يبحث عن رقم هاتف مميز ورقم سيارة مميزة ليصبح مميزا .
قد أحمل (البلوي) التهمة لو كان (الجمعان) الطيب على حد زعم والده قاصر (أي تحت 18 عاما) ، لأنه هنا يصبح (البلوي) مجرما باسم القانون ، فهو اختطف أو غرر بقاصر .. أما أن يذهب رجل بالغ مع شخص ما ويترك عمله ، فنطالب بعقاب الآخر ، فهذا منتهى (السذجاة) .
المدهش أن هذا الهجوم والذي أجد له مبررا من العامة لأن أغلبهم لا يعلمون القانون ، جر معه بعض الإعلام للمطالبة بإيقاف (البلوي) عند حده .. والبعض الآخر من الإعلام (اللاهلالي) راح يسخر ويتساءل أيهما يثير الضحك أكثر (هزيمة النصر من نيسان .. أم هزيمة الهلال من سامسونغ الناقص) .. وللأمانة التاريخية كان مقاله يثير الضحك والاشمئزاز أيضا .
الغريب في الأمر أن قصة (دفع 200 ألف ريال التي عرضت على الجمعان من أجل أن يتخاذل في النهائي .. فعاقبهم الجمعان بهدفين ) والتي راجت وروج لها الصحفيين لم يعد يتذكرها أحد وهكذا هي الشائعات تختفي حين تفضحها الوقائع ، والغريب أيضا أن هذه الشائعة ستصبح بعد أن تنتهي القضية ، حقيقة يؤمن بها البعض ويرددها البعض طالما نحن لا نربط الأشياء بعضها ببعض ، دون إهمال شيء أو نسيان شيء ، لأننا ننسى الماضي وننغمس في الحاضر .

والد الجمعان يخرج للضوء من جديد

بدا والد الجمعان في حديثه ، حزينا وغاضبا ومسكين ، حزين لظهوره بهذا الشكل ، وغاضب لأن الجميع علق المشانق لولده ولم يتعاطفوا معه كما هو قلب الأب ، ومسكين لأن ابنه ورطه بفعلته فخرج يتوسل الجميع بأن يرفقوا بقلب أب دهسه أبن في لحظة (أنانية) راح يبحث فيها عن متعته دون النظر لأب ، أو أخ سيحترف قريبا ، وسيحاسبه العامة على فعلت أخوه .
بهذا الخروج ، اتسعت فوهة الاتهامات ، لتطال المصيبيح ثم الرئيس ، البعض اتهم المصيبيح لأنه لم يمنع الجمعان ، ولست أدري كيف يمنعه .. هل عليه أن (يرفع العقال ويضربه) ، في مثل هذا الموقف أرى المصيبيح تصرف بمنتهى الحكمة ، لأن الجمعان الذي دفع التمياط ، كان يمكن أن يدفع المصيبيح فيخسر هيبته ، من جانب آخر المصيبيح يؤمن بأن القانون هو الفصل بينهما .
البعض الآخر اتهم الرئيس بالغياب ، ورغم تحفظي على إدارة (الرئيس الغائب والمنتظر) ، أظن في هذا الوضع تصبح اللوائح والقوانين هي الفيصل بين اللاعب المحترف والنادي ، وليس الرئيس ، فالاحتراف هو نظم وقوانين وعقود واضحة ومحددة تفصل بين طرفين ، اللاعب من جهة والرئيس الممثل للنادي من جهة أخرى .. ولأن المشكلة تدثرت بالمشاعر ، لم يسأل أحد لماذا يحدث لنا هذا ؟

اللوائح .. (يا قليل الأدب)

وسط جمهور غاضب وآخر شامت ، وإعلام تخلى عن مهامه ، ووالد يحكم بقلب الأب ، تبرز أسئلة حادة ، أين العدل فيما يحدث ؟
ومن المسؤول عن مثل هذه الأمور ..؟
ولماذا الفتاوي كثيرة في هذا الأمر ؟
لا يمكن الإجابة على مثل هذه الأسئلة دون المرور على المشرع لهذه المنظومة التي تسمى (احتراف) وأعني لائحة الاحتراف (المجلل غلافها بالسواد) .
في مثل هذا الحادث الذي حصل ، ما الذي يقوله (سفر الاحتراف) ؟
في عقد اللاعب (ملاحظة عقد اللاعب السعودي لا يختلف فهو متشابه وعلى النادي دفع 100 ريال لأخذ العقد من لجنة الاحتراف) .. ينص في العقد في البند 11 : (في حال إدانة اللاعب بسوء السلوك أو الاستمرار في التصرف الخاطئ أو مخالفة أنظمة النادي أو الاتحاد أو لائحة احتراف لاعبي كرة القدم ، تطبق عليه إحدى العقوبات المنصوص عليها في هذه اللائحة).
هذا ما يقوله العقد ، ولكن ما الذي تقوله لائحة العقوبات فيما فعله (الجمعان) ؟
تقول لائحة العقوبات في الفصل الثامن في المادة الرابعة عشر : (إذا تخلف اللاعب عن مباراة رسمية أو ودية للنادي دون سبب مقنع يحسم من راتبه الشهري خمسة عشر يوما في المرة الأولى ، وفي حالة تكرار ذلك يرفع الأمر للجنة لاتخاذ ما تراه مناسبا) .
هكذا هو النص (مباراة رسمية أو ودية) .. تخيلوا لو أن وزارة الداخلية في عقوبة (قطع إشارة المرور) على سبيل المثال .. تخلت عن تفصيل العقوبة ، والتي تقول : (في حال قطع الإشارة للمرة الأولى يغرم المخالف 300 ريال ، وفي حال تسببه لحادث يتكفل بإصلاح الأضرار التي نتجت عن مخالفته ، بغض النظر عن هذه الأضرار هل هي مادية أو جسدية) .. وجاءت فقط كما لائحة الاحتراف ، من قطع إشارة المرور يدفع 300 ريال بغض النظر عن هل حدثت أضرار أم لا .
مثل هذه اللوائح ستجد أن العاطفة تتحكم ، فيأتي أبنك أو أبني لا قدر الله بعد قطع الإشارة لأغرمه ، وإن كان هناك أضرار كما حدث للهلال حين فقد 100 ألف دولار في نهائي السوبر ، وأقول له (يا قليل الأدب لا تتعودها) .. وهكذا هي المشاعر لا يمكن لي أن أقسو على أبني طالما ليس هناك نصا واضحا يحدد ويفصل نوعية العقبات ، وتصبح المباراة الودية أشبه بالدورية أشبه بنصف النهائي أشبه بالنهائي ، ومثل هذه اللائحة الغامضة والمميعة للقانون .. لا يمكن لها تحقيق العدل .. ولا يمكن ليّ أن أحمل هذه اللائحة وواضعها مسؤولية فشل الاحتراف فقط .

من أين يأتي الخلل ؟

قلت أحيانا ينتابك شعور أن الاحتراف في كرة القدم ، ما هو إلا كذبة كبيرة صدقناها جميعا ، والحق يقال أنه ليس كذبة ، بل هو حلم يراود الجميع ، فالتطور في أي مجال رياضي أو علمي لن يتحقق له النجاح إلا حين يصبح مهنة ، فالباحث إن لم يحقق له بحثه دخلا يحميه من الحاجة ، سيصبح باحثا في وقت فراغه إن وجد وقتا وقوة بعد مطاردته رغيفه ، أي هاويا وبالتالي يصبح بحثه ليس ذا قيمة تفيد المجتمع .. والرياضي كذلك .
لهذا أقول : إن الاحتراف حلما .. وسيظل كذلك طالما لم نعمل من أجل تحقيقه ، ولنعمل علينا أن نرى التربة التي سنزرع بها شجرة الاحتراف ، هذه التربة هي النادي واللاعب ، فهل من يدير النادي محترفين ، وهل اللاعب لدينا يملك الوعي ليتحمل مسؤولية توقيع العقد ، وهل العقد يميز بين اللاعب المبدع واللاعب الأقل إبداعا ، وهل هذا العقد الذي يلجأ للوائح تحقق له اللائحة العدل للاعب وللنادي .
وقضية (الجمعان) تؤكد أن اللائحة إلى الآن لم تحقق العدل لا للاعب ولا للنادي ، وعلينا أن نعلم أن غياب العدل في أي مكان ، يعني غياب الإبداع والتطور ، فمن يعمل سيكف عن العمل حين يرى أن لا أحد ينصفه كما يحدث للتمياط الذي يحترم القانون ويعلم أنه لا يملك إثباتا خطيا لما وعد به كمقدم عقد ، ورفض أن يتلاعب كما فعل الكثير ، لكنه مع الوقت ومع استمرار مثل هذه اللائحة التي كان من المفترض أن تكون الماء الذي يسقى نبتة الاحتراف ، سيجف كل شيء ، وسيظل الاحتراف حلما ، وسنقبل به كحلم ، وإن كان هناك من يصر على أن الاحتراف أمرا واقعا وملموسا ، عليه أن يعلم أنه مازال نائما .

خاتمة ..

ماذا لو أنه تم تعديل لائحة الاحتراف لتصبح هكذا ( اللاعب الذي يرفض مشاركة الفريق في مباراة رسمية (احتياطيا أو أساسيا) ، يحق للنادي إلغاء عقده على أن يعيد اللاعب مقدم العقد بالإضافة إلى دفع راتبين ويصبح عقده لاغيا ، ويحق للنادي وضعه على لائحة الاحتراف للاستفادة من نسبة مقدم العقد الذي سيقدم له كما تنص عليه اللائحة) .
هنا سيعرف اللاعب أن عليه واجبات لا بد أن يقوم بها .. تخيل لو أن المسألة جاءت على خصم راتب ستة أشهر فقط ، وهناك من سيدفع مبلغ الستة أشهر مقابل أن لا يلعب اللاعب .
القانون ليس عقابا فقط .. بل وتعويضا للمتضرر ، ونادي الهلال تضرر على الأقل فقد مبلغ 100 ألف دولار لو حقق الكأس ، وفي مثل هذه الحالة تضرر النادي ، لأنه دفع للاعب من أجل أمور لم يقم بها اللاعب .