قبل وفاة مسرّة بأشهر عبرت لي زوجتي عن خوفها على مسرّة حيث أنها أصبحت تحفظ بسرعة عجيبة صفحتين في اليوم أو يزيد وتجلس إلى أمها وتحدثها بلغة ليست بلغة عمرها فتقول لها "هذه السورة مرّة عاجباني .. هذه الآية مرة حلوة"، وتكون النتيجة تفاعل عجيب بين مسرّة مع القرآن وتُنْهِي في اليوم الواحد صفحتين ونصف بكل سهوله ويسر، وجاء شهر رمضان .. آخر رمضان لمسرّة وميسرة، وقد وَعَدْتُ ابنتي فريال البالغة من العمر عشر سنوات والحافظة من القرآن تسعة أجزاء أنها إذا حفظت جزءاً جديداً من القرآن فلها جائزة قيمة، ووعدت مسرّة أن لها مثلها إذا حفظت نصف جزء من القرآن على أن ينتهيا من هذا الحفظ قبل الخامس والعشرين من رمضان حيث أن المُحفّظة ستسافر ولابد أن تُسمّع لهما قبل سفرها، وبعد ساعتين وجدنا مسرّة حزينة "مبوزة"، وسألناها لماذا أنت حزينة فأجابت "ليش تقول لفريال تحفظ جزء وتقول لي أنا أحفظ نصف جزء"، فأجبناها "أنتِ أصغر وإذا أردتي أن تحفظي أكثر من النصف فاحفظي"، قالت "أيوه وأسبقها أنا أحفظ قبلها"، ووعدناها بجائزة إن هي فعلت، وجاء اليوم الموعود يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر رمضان وأنا بين التراويح والتهجد في الحرم رأيت مكالمة من البيت فاتصلت وأجابتني ابنتي مسرّة وصوتها كالعادة فرح وإن كان أكثر من المعتاد وتقول كلام غير مجمّع لشدة فرحها وسرورها "أيوه أنا ... تاج ... هدية ... جائزة ... خذ ماما"، قالت لي زوجتي "يا سيدي مبسوطة لأنها دوبها الساعة الواحدة وانتهت من الجزء الجديد وسورة إضافية فوقها وهي الآن سابقة المدرسة بجزئين تقريباً" وأمها تضحك وتقول لي "هي التي طالبت المحفّظة بالجلوس عنوة وقالت ما تخرجي قبل ما أَسمِّع كل اللي حفظته معاكي" وجرت على أمها في المطبخ وقالت لها "إقرأي علي الفاتحة" – نعم - طلب غريب عجيب يصدر من طفلة لأمها، وتعجب الأم لطلب ابنتها ولكن لله في خلقه شؤون وله معهم حال لا يدركه ولا يراه إلا أولو الأبصار، وكانت سعيدة سعادة عظيمة بانتهائها من تسميع جزء كامل وسورة فوقها دون خطأ واحد فقالت لها الأم "سيحضر لك بابا ما طلبت من بلاي ستيشن ومطالبك الأخرى"، وبدأت تخطط الطفلة مع أمها أين تسافر وتذهب للفسحة وماذا تشتري من هدايا للعيد والمكافآت وجهاز الكمبيوتر وتشاتينج على الإنترنت وغيره مما يتطلع له أطفال اليوم، وإن كانت مسرّة غير كل هؤلاء الأطفال في أن جائزتها الكبرى في كلمة ما زالت ترددها وهي "التاج".
نعم لقد كان جُلّ همها أن تلبس التاج بحفظها للقرآن وأن تُلبس أباها وأمها هذا التاج يوم القيامة قبل أختها فريال.
بعد إنتهاء صلاة التهجد عدت إلى البيت ووصلت الساعة الرابعة والنصف، وككل يوم يكون الأبناء نائمين فأتسحر أنا وزوجتي، ولكن اليوم كان مختلفاً عن باقي الأيام فميسرة ما زال مستيقظاً ولا يريد النوم ونشيط ويلبس البيجامة التي يسميها "النامة"، وجاءني وتعلّق بي بطريقة غريبة -غريب أمر ميسرة ومسرّة- كأن ميسرة كان يعلم أن هذه آخر ليلة سيقضيها معي ومع والدته فأراد أن يأخذ منها أكثر ما يستطيع ويعطي فيها والديه آخر سويعات له على وجه الأرض، فتسحّر معنا وبقي للفجر ثم ذهب للنوم، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي يجري فيها ميسرة إلى أخته مسرّة وينام في حضنها، وتصف الأم بغرابة كيف نام في حضنها ووضع رأسه على صدرها ورجله على رجلها وأخذ يدندن كعادته وكأنه كان يعلم أنهما سينتقلان عما قريب سوياً إلى مكان واحد فبدأت رحلتهما سوياً في تلك الليلة، وجاءت الساعة الحادية عشرة صباحاً ووجدت ابنتي فريال البالغة من العمر عشر سنوات تقف على رأسي وتوقظني وهي تتكلم بصعوبة وتقول "أنا وماما وميسرة تعبانين"، فخرجت من الغرفة ولقيت زوجتي وأطفالي الأربعة على الأرض، ميسرة مطروح على الأرض وجهه شاحب وشفائفه زرقاء وزوجتي تمسك ببطنها وكلهمم يتقيأون، وفريال تترنح وتكاد تسقط من طولها وأنا في ذهول لِمَ لَمْ توقظوني من قبل؟!.. وعلمت أن الأمر حدث بسرعة فائقة وفي لحظات لم يعد لديهم قدرة على الحركة وكأنّمَا أصابهم الشلل، وكانت الحال كذلك بمسرّة وهي مطروحة في الصالة، فقلت في نفسي ليس هناك وقت، وهل الإسعاف سيأتي بسرعة؟! .. فحملت الإثنين الصغار وأمهم تتكئ علي وناديت إحدى أخواتي وهي طبيبة إستشارية أطفال. لا أدري كيف وصلنا إلى المستشفى؟! وصلنا الطوارئ وكل الذي يدور في خلدي هو تسمم وأقصى ما سيكون هو غسيل للمعدة، وكان ميسرة يتكلم وما زال في وعيه وإن كان مرتخي الأعصاب، وكان يصرخ ويبكي وما زال فيه قوة، وبدأ فريق الأطباء والتمريض في العمل وبدؤوا في وضع إبرة المحلول .. وفجأة ومن وضع النائم المتعب المرتخي العضلات قفز على طرف السرير ونظر إلى الباب كأنه رأى شيئاً أزعجه أو أن شخصاً دخل علينا فظننت أن أمه دخلت علينا، فنظرت بسرعة فلم أر أحداً دخل وأعدت نظري إليه فإذا بأعضائه كلها ترتخي فجأة وفي ثوان رأيت الفريق الطبي يحاول إنعاش قلب إبني بلا فائدة حتى أن الأطباء أنفسهم كانوا في ذهول لسرعة ما حدث، وعلمت بعد ذلك أن الأطباء قضوا وقتاً طويلاً في محاولة إنعاش القلب لإبني دون فائدة، ولكن الوقت مرّ بالنسبة لي كأنه دقائق وثوان، ولم تنزل عيني عن الشاشة التي فيها رسم دقات القلب لعل الحياة تدبّ مرة أخرى في إبني ميسرة .. كنت أبحث عن معجزة تنزل من السماء .. لم أكن اتصور أن هذا الوجه البريء يسكت عن الكلام، لم أكن أتصور في يوم من الأيام أنني سأقف مثل هذا الموقف .. لم أكن أتصور أن هذا الوجه البريء سيغيب عني وأنه سيسكت عن الكلام للأبد .. يارب .. يارب .. يارب. تمنيت أن أستطيع فعل شيء .. كل الذي كان في حيلتي هو الدعاء ومسح آثار الدم التي تخرج من أنفه وفمه وكنت أقول في نفسي دعها تخرج قد تكون هذه آثار حياة تعود.
عجيب أمر الإنسان .. كيف تختلف عنده المعايير وتنقلب الموازين بتغير الأحوال، والله إني كنت سعيداً في كل مرة يُصعقُ فيها قلب إبني الصغير بالكهرباء ويهتز كل جسده ويعود القلب يرتعش أمامي على الشاشة لأن ذلك يعني شيئاً واحداً أن هناك أمل .. أي صورة من صور الجنون هذه أن يتمنى والدٌ أن يُصعَقَ قلب ابنه بالكهرباء، ولكنها حال أب لا يريد أن يفقد إبنه، وبعد فترة من الزمن فقدت إدراكي بالزمن، ورأيت الدموع تنهمر في عيني الطبيب الذي ينعش قلب ميسرة فعلمت أن كل شيء قد إنتهى. لم أكن أتصور في حياتي أن أباً عاقلاً يقبل أن يشق صدر إبنه أو أن يفتح في رأسه فتحه ولكن شدة خوفي على فقدانه للأبد جعلني أتمنّى في تلك اللحظة أن يشقوا صدر إبني لأن ذلك كان يعني بالنسبة لي أنه ما زال هناك أمل أن يعود لي إبني ميسرة فلم أكن مهيئاً لوداعه، وفي لحظة نظرت فوجدته مرتخي الجسد بارداً وأنا أسأل نفسي أين ذلك الوجه الأبيض الأشقر الجميل؟!.. أهكذا ينتهي كل شيء في دقائق؟!.. كان يتكلم قبل ساعة!!.. كان يلعب معي البارحة!!.. لم يكن عند أحد إجابة عن الذي حدث؟! وكيف حدث؟!..
وانتهى كل شيء وغاب ميسرة عن الدنيا وودّعها .. علمت في تلك اللحظة أن باقي أفراد أسرتي في العناية المركزة، وتمنّيت أن آخذ ميسرة معي إلى هناك، يعلم الله أن تركي له في غرفة الطوارئ كان أشق وأصعب علي من أن أموت وأحيا ألف مرة وأُقَطَّع ويُفعل بي أي شيء، ولكني مضطر أن أترك طفلي الصغير ميسرة فباقي أسرتي كلهم الأربع في العناية المركزة لا أدري بحالهم.
كان علي أن أتماسك وأن لا أُبدي حزناً وأن أقف بجوار كلٍ من زوجتي وأبنائي الثلاث الباقين لي على وجه الأرض، فبدأت بابنتي فريال "درة أبنائي وبِكري" فوجدت حالتها مستقرة، وجريت لغرفة مسرّة فوجدتها في حالة مستقره وما آلمني إلا أنها ذهبت للمستشفى وهي صائمة ورفضت أن تفطر بالرغم من إصراري على أن تفطر وهي طفلة صغيرة لم يكتب عليها الصيام بعد، وما أن وصلنا إلى المستشفى إلا وشفائفها مشقّقة من الجفاف وترفض أن تشرب وإن كانت منذ وصولها تأخذ السوائل والمحاليل بالوريد، وجلست بجانبها وهي واعية والحمد لله وتتحدث إلي وإلى عمتها وأمضينا تقريباً ست ساعات على هذا الحال وقلنا الحمد لله بدأت الأمور تستقر وتهدأ، وإن كان هناك شيء في نفسي يجعلني غير مستقر وهو علمي بالإرتباط غير الطبيعي بين كلٍ من مسرّة وميسرة، وهي تتلقى الأكسجين والسوائل بالوريد وموصلة بأجهزة القلب والتنفس الصناعي ورسم تخطيط القلب وغيره من مستلزمات الرعاية المركزة، علمت بعد ذلك أن المستشفى قامت بالإتصال بمركز سموم جدة وبإرسال عينات لمعرفة نوع التسمم، وبحكم إتصال المستشفى المباشر بأمريكا فقد تم كذلك الإتصال ومناقشة الحالات مع مركز السموم في ولاية "كاليفورنيا" بأمريكا أجراها رئيس الأطباء في المستشفى، وقدم شرحاً إكلينيكياً متكاملاً، وبدأ الشك في أن هذه ليست حالة تسمم غذائي عادي، وقد يكون هناك سم قاتل فيه مادة الألمنيوم، وبالتحديد مادة فوسفيد الألمنيوم (Aluminum Phosphide)، وقد علمت مؤخراً أن ليس هناك وللأسف الشديد أي علاج لمن يستنشق الغاز السام الصادر منها، وبعد استجواب ومراجعة تاريخ اليومين الماضيين بالتفصيل بدأت الشكوك تزداد وتتضافر المعلومات التي تشير بأن ما نتعامل معه هو تسمم ناتج من إستنشاق غاز الفوسفين (Phosphine) السام المنبعث من أقراص مبيد الآفات فوسفيد الألمنيوم، وأن أحد سكان الأدوار السفلية في العمارة التي نقطنها قام بوضعه بشقته بكميات كبيرة وأغلقها وسافر إلى بلاده، من الذي يبيع هذه المادة السامة؟!.. من الذي أرخصها واعتمدها كمبيد حشري للأماكن المأهولة؟!.. من الذي يراقب هذه المواد السامّة ويأذن باستيرادها؟!.. من الذي وفّرها له بهذه الكميات القاتلة؟!.. من الذي يشارك في قتل أبنائنا بجهله أو إهماله أو جشعة؟!..
بقيت بجوار ابنتي مسرّة أمسك بيدها حتى جاءت الساعة التاسعة والنصف مساءً، وكانت كل الأمور تسير بشكل جيد وبجانبها معي عمها وعمتها "أختي الصغيرة وهي طبيبة في الجراحة"، وتسأل مسرّة "كيف حالك يا مسرّة" وأنبوب التنفس في فمها فتشير بأنها جيدة، وفي لحظة أصبحت تتكلم بسرعة وتشير لنا حتى ظننا والأطباء أنها حالة عصبية وهي تحاول أن تتكلم وتشرح لنا أنها ترى شيئاً وتطالع للأعلى .. نفس النظرة التي نظر ميسرة بها إلى باب الطوارئ، ونظرت ولم أجد أحداً ثم غاب عني تكرر المشهد مرة أخرى مع إبنتي مسرّة .. أخذت أحدّثها .. أقول لها يابنتي "مين فوق؟ مين قاعد يكلمك؟" وهي تريد أن تشرح، ولكنني لا أفهم لوجود أنبوب التنفس في فمها، وطلبت منها أن تمسك بيدي ففعلت ودخل مجموعة أطباء آخرين، وعلمت آنذاك أنهم أصبحوا قلقين بأنهم يتعاملون الآن مع هذه المادة السامة القاتلة والغاز القاتل والتي وللأسف ليس لها علاج في حالة إستنشاق كمية كبيرة منها. ودخل رئيس قسم التخدير وقال لي أننا نتعامل مع دورة ولكننا لسنا متأكدين منها بعد، ولم أرد أن أشركهم مخاوفي ولم يريدوا بعد أن يشاركوني في التفاصيل المشئومة، وكانوا متفائلين أنها ستعيش بالرغم من ذلك وسألنا مسرّة "كيف حالك يا مسرّة" فهزت رأسها وهي واعية فاسترخينا .. وفجأة سمعت نفس الجرس المشئوم .. لقد توقف القلب، لقد كانت تتحرك قبل دقائق تجيبني وتستجيب لي وتتكرر نفس الدورة مثل ميسرة وأصبحت أُشِير لهم على ثوبي وفيه دم إبني ميسرة وأقول لهم "ما نشف دم ميسرة .. بس خلوه ينشف".
وانتهى كل شيء .. غابت مسرّة كما غاب ميسرة في لحظات، ترى ما هذا الذي رآه ميسرة ورأته مسرّة لحظات قبل وداعهم هذه الدنيا؟! .. ليتني أسمع من صغيرتي ما هذا الذي رأت وليتني أسمع من صغيري ما هذا الذي رآه؟!.. يقولون لي إصبر .. وإني والله سأصبر، ولكن كيف أوزع صبري؟! .. أأوزعه على كلماتهم التي ما زالت ترن في أذني؟! أو على ذكرى ضحكاتهم ولعبهم بين يدي؟! أو على أحلامهم؟! .. أو أصبر على رؤية أمهما وهي تستقبل الخبر ونعيش ما بقي من عمرنا نداوي هذا الجرح العميق؟! .. أو أصبر وأنا أرى درّة قلبي وبكري فريال وهي تخوض الحياة وقد سُلبت أختها الوحيدة وأخاها؟! .. كيف ستعيش وتتعامل مع هذه المأساة؟! .. أمسك بجدار غرفة العناية المركزة أنظر إلى إبنتي مسرّة وقد أحاطها الأطباء من كل مكان لا لشيء إلا لحرقتهم وألمهم أن يتركوها، كالذي علم بعقله أن كل شيء إنتهى ولكن قلبه لا يطيق أن يذعن ويقبل .. وبقينا ننظر لها وقد انتقلت لربها، وحولها سبع أطباء يذرفون الدمع حزناً عليها.
وخرجت من هناك ولا أدري أخروجي من هذه الدنيا سيكون أصعب أو خروجي من تلك الغرفة وقد ودعت فيها ميسرة ومسرّة في بضع ساعات .. رحلة قصيرة تلك التي قضيتها معكما يا ميسرة ويا مسرّة، ثم أسرعت لابنتي فريال وجلست بجانبها وزوجتي وابني الرضيع بلال وهم مازالوا في غرف العناية المركزة، وأصبحت أتنقل بينهم لا أدري كم سيبقى لي منهم بعد نهاية هذا اليوم الذي بدأ بمكالمة هاتفية من مسرّة وأنا في الحرم بين صلاة التراويح والقيام لتبشيري بانتهاء جزء من القرآن وسورة فوقها، وتذكر كلمة "التاج" وكلام آخر كثير، فقدت في هذا اليوم إثنين من أبنائي ومازال هناك في اليوم ساعات .. يارب رحمتك ولطفك بما تبقى لي من أهلى. وانتهى اليوم وأبقى الله لي زوجتي وابني الرضيع بلال ودرة أبنائي فريال .. فالحمد لله الذي أعطى وأخذ .. وكل شيء عنده بمقدار، وتجلدت وصَابَرتْ معي أم مسرّة وميسرة، ساعات أليمة تلك التي قضيتها مع زوجتي في العناية المركزة وهي على سريرها ورأسي على جانب سريرها لا أكاد أرفعه من ثقل ما أحمل.. لم أكن أتصور أنني سأدفن ابني وابنتي الطفلين بل أن أدفنهما في يوم واحد.. وكم مرت عليّ اللحظات مر الشّفرات تقطع لحمي وتفري عظمي وأنا واقفٌ بين القبرين والكل من حولي مجتهد أن يواريهم الثرى وأنا حائر بينهما .. أأقف على هذا أم أنظر ذاك؟! أأدعو هنا أم أبكي هناك؟! .. وأنا أُقْتَل ألف مرة بكل ذكرى أحيتها مسرّة وأحياها ميسرة فيّ، كيف أوزع صبري؟! .. مرت أيام عصيبة وانتقلنا للغرف العادية .. وجاء العيد ونحن ما زلنا في المستشفى .. وبدأ التكبير بعد صلاة الفجر وأنا لا أريده أن يقف، ولا أريد العيد أن يبدأ .. وكيف لعيدنا أن يبدأ وقد إنتهى عيدي بدفني لأبنائي الإثنين ميسرة ومسرّة، وعلمت بعد ذلك أن سكّاناً آخرين أصيبوا كذلك بأعراض إستنشاق هذا الغاز السام، وعلمت بعد ذلك أن هذا المبيد الحشري -مبيد فوسفيد الألمنيوم- هو مبيد حشري فعّال في تبخير صوامع الغلال والمخازن لقتل سوس الحبوب والدقيق وكذلك لقتل الفئران والجرذان بل هو غاز قابل للإشتعال، وعلمت كذلك أن وزارة الزراعة هي التي تمنح تراخيص إستيراد وبيع المبيدات الزراعية ومنها مبيد فوسفيد الألمنيوم، وهي المسؤولة عن المراقبة للتأكد من إلتزام كل منشأة حصلت على ترخيص إستيراد هذه المادة بأنها ملتزمة بالقيود التي وضعتها وزراة الزراعة والموقّع عليها، وأن لا تُصرف هذه المواد الزراعية السامة إلا للجهات المرخّص ببيعها وإستخدامها، وأن وزارة الزراعة تطلب هذه الضمانات الموقع عليها خطياً من صاحب المنشأة التي طلبت إذن الإستيراد وذلك قبل إفساح الشحنة من الميناء مع تضمين شهادة(SASO) وهو الإختصار المعروف لهيئة المواصفات والمقاييس، وعلمت كذلك وللأسف أن هناك أكثر من عشرين حالة وفاة على مدى عامين من جراء غياب الرقابة لبيع هذا المبيد الحشري الذي لا يدخل البلاد إلا بإذن وتصريح من وزارة الزراعة، وأنه لذلك لا تستخدمه أمانة محافظة مدينة جدة ولا تتعامل معه من قريب أو بعيد ولا تستخدمه في برامجها لمكافحة آفات المدينة لأنها تعلم بمدى خطورته، وتستخدم فقط المبيدات التي أقرت من قبل الجهات المتخصصة وتقع فقط ضمن ما توصي به منظمة الصحة العالمية. وعلمت كذلك أن الأمانة بدورها في تأمين الأمن والسلامة لكافة سكان مدينة جدة قد عقدت ندوتين توعويتين بمشاركة وزارة الصحة حول سبل السلامة في إستخدام المبيدات، وكانت الندوتين في شهري 2 و6 من هذا العام، وقد خصصت الندوة الثانية لمراقبي ومراقبات الأسواق لدينا للتعرف على هذه المادة السامة وعبواتها ومصادرتها من محلات النظافة والعطارة والبقالات الشعبية غير المرخص لها بالإتجار فيها، بل وقد قامت وزارة الصحة بالتنبيه مراراً ومراراً من خطورة هذا المبيد وضرورة إزالته من الأسواق، وقد أرسل بالفعل خطاب رسمي من مدير الشؤون الصحية بمحافظة جدة بتاريخ 18/03/1429هـ للجهات المعنيّة لتحذيرها من إنتشار هذا المبيد في الأسواق وضرورة التعامل الفوري مع هذه المآساة والكارثة التي تحصد أطفال هذه المجتمع .. أين الرقابة إذن؟! .. مَن وضع هذا السم القاتل بهذه الكمية بين يدي من استخدمها؟! .. أين رقابة وزارة الزراعة من هذه المنتجات؟! .. وإنني أسأل اليوم إن لم تكن وزارة الزراعة هي المسؤولة فمن المسؤول؟! .. من الذي قتل طفليّ مسرّة وميسرة؟! .. من نزعهما من بين يدي وغيّبهما عن حضني؟! .. هل قتلهما حقاً هذا الجار .. أم الجهل .. أم الجشع .. أم غياب الرقابة .. أم هم جميعاً؟! .. هل هو جهل مجتمع وتقصير المسؤولين في توعيتهم؟! .. أو جشع التجار ذوي الضمائر الفاسدة وسعيهم للربح السريع؟! .. أو غياب رقابة وزارة الزراعة المسؤولة والمصرّحة لدخول هذا المبيد تحت مسئوليتها والتي أخذت التعهدات اللازمة من المنشآت الزراعية!! .. أو أن المجتمع بأسره قد قتل ميسرة ومسرّة بالتقصير في محاربة الجهل ومعاقبة الجشع وغياب الرقابة؟! .. كيف يغلق ملف مثل هذا بهذه البساطة وهذه السهولة وتختذل القضية فقط في تجريم صاحب الشقة السفلية الذي قام باستخدام المبيد القاتل بلا رحمة في شقته؟ إن فعله القاتل ما كان ليحصد ثمرة فؤادي لو لم يعنه عليه من وفّرها له في السوق أو البقالة بل حتى محلات العطارة. لو حدث هذا في الغرب ألن تكون هناك محاسبة شديدة وفتح لملف التحقيق دون أن يكون هناك حصانة؟ فهذه حياة بشر .. وأي بشر؟! .. فهم أثمن ما أملك وليس هناك ثمن على وجه الأرض يمكن أن يقدم كتعويض عن فقد روح واحدة .. "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً". أما الصحافة فحدّث ولا حرج، فبعض الصحفيين كتبوا وليتهم ماكتبوا .. تزييف وتشويه للحقائق بل وإيذاء وتجريح لنا)). إنتهت القصة على لسان والد ميسرة ومسرّة.
إلى كل من أراد أن يعزي والد ووالدة مسرّة وميسرة .. لا تعزّوهم بكلمات جوفاء وإن خرجت من قلوب صادقة .. يكفيهما عزاء بعض الصحف والصحفيين التي اتهمتهما بالإهمال والتقصير والجهل، إتهمت الأب وهو الرجل المتعلم الواعي المثقّف الذي يحمل شهادة دكتوراة في الهندسة والحافظ لكتاب الله، والذي جمع بين علمي الدنيا والآخرة وأشهد الله أننا ما رأيناه إلا مدرسة في العِبَر ونموذجاً راقياً في التربية والتعامل مع أشد إبتلاء ومحنة، واتهمت الأم وهي السيدة الكريمة التي تحملت أعباء بيتها وتربية أبنائها وكرّست حياتها من أجلهم وأخرجت أبناءً وبناتٍ حفظةً لكتاب الله، ليكن عزاؤكم لهما أن تجعلوا من حياة ووفاة مسرّة وميسرة خيراً عظيماً لهذا الجيل، وعطاءً ومنفعةً لهذا المجتمع، فهذا ما كان أبو مسرّة وميسرة وأمهما يعملان من أجله، وقصة تربيتهما لمسرّة وميسرة لهيَ أكبر دليل، ولن يكون ذلك أبداً بمعالجة سطحية للموضوع بل بالتركيز على ما هو أحق وأولى أن يعالج.
إلى كل من أراد أن يعزي والد ووالدة مسرّة وميسرة .. أقول لهم عزوهما بأن تُحيوا لهما سيرة مسرّة وميسرة..
ليصبح ميسرة رمزاً لتيسير أمور كثيرة عُسّرت على الناس ولم تزل إلى اليوم معطّلة..
ولتصبح مسرّة رمز لإدخال السرور في نفوس اغتالتها الهموم فأصبحت بها مكدّرة..
ولنعيد للإنسان في مجتمعنا قيمته المهدرة..
ونرفع بهما شعار "البشر قبل الحجر"..
ولنُفعّل إحياءً لذكراهما قول الله تعالى "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً
د. وليد أحمد فتيحي
طبيب استشاري، ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للمركز الطبي الدولي
.
لم أستطع اكمال القصة فأخي قد ركب السيارة ولايريد سوى البيت فدوام متعب وارهاق لايوصف. استغرب أخي سكوتي فلم أهمم بكلمة واحدة طوال المسافة إلى البيت فليست بالعادة لي .
أسير وكأن الجريدة أمامي وخيلت لي صورة للطفلين ولا غير ذلك شىء . وصلت البيت لم أنزل من السيارة أكملت قرءاة القصة بضيافة من سيارتي العزيزة وبكرم لايوصف من مظلة منزلنا.
بعد قراءة هذه القصة لم يكن أمامي إلا أسئلة عجزت عن ايجاد اجابات لها فهي شبيهة بغموض أسئلة بعض أساتذتي الأعزاء في جامعتي العزيزة.
ولكن السؤال الأكبر هو
من قتل مسرة وميسرة ؟
الاجابات كثيرة وطويلة ولكن إلى الله المشتكى
ونسأل الله العلي القدير أن يمن على والديهم بالصبر والسلوان وأن يخلف لهم خيراً مما أعطى وحده القادر سبحانه.
أحببت أن تشاركوني قراءة هذه القصة على الرغم من قرءاتي لها قبل أسبوعين لكني لم أجد لها أثرا في مجلسنا الرائع , فبالرغم من ابتعادي عن المشاركة لكن لايكاد تمر ساعات دون أخذ جولة سريعة في رحاب شبكتنا الغالية.