أمّ النخيل |
- إلى أمي .. الهفوف - |
* |
* |
أتذكُرينَ صبيّا عادَ مُـكتهلا |
مسربلاً بعذابِ الكونِ .. مُشتملا؟ |
أشعاره هطلتْ دمعاً ... وكم رقصتْ |
على العيونِ ، بُحيراتِ الهوى ، جَذلا |
هُفوفُ! لو ذقتِ شيئاً من مواجعهِ |
وسّدتِهِ الصدرَ .. أو أسكنتِه الخُصَلا |
طال الفراقُ.. وعذري ما أنوءُ بهِ |
يا أمّ! طفلُكِ مكبولٌ بما حَمَلا |
لا تسألي عن معاناةٍ تمزّقني |
أنا اخترعتُ الظما.. والسُّهدَ.. والملَلا |
هل تغفرينَ؟ وهل أمٌّ وما نثرتْ |
على عقوقِ فتاها الحبَّ والقُـبُـلا |
* |
ضربتُ في البحرِ .. حتى عدتُ منطفئاً |
وغصتُ في البرّ.. حتى عدتُ مشتعلا |
أظما .. إذا منعتني السحبُ صيِّـبَـها |
أحفى .. إذا لم تُردني الريحُ مُنتعلا |
ويستفزُّ شراعي الموجُ ... يلطمُهُ |
كأنّه من دمِ الطوفانِ ما غُزلا |
ورُبَّ أوديةٍ .. بالجنِّ صاخبةٍ |
سريتُ لا خائفاً فيها ... ولا عَجِلا |
تجري ورائي ضباعُ القفرِ .. عاويةً |
والليثُ يجري أمامي .. يرهبُ الأجَلا |
كأنّما قلقُ الجُعْفيّ .. يسكنني |
هذا اللي شَغَلَ الدنيا .. كما شُغِلا |
* |
يا أمُّ عانيتُ أهوالاً .. وأفجعُها |
مكيدةُ الغدرِ في الظلماءِ مُختتِلا |
أواجهُ الرمحَ في صدري .. وأنزعهُ |
والرمحُ في الظهرِ .. مسّ القلبَ .. أو دخلا |
ألقى الكُماةَ بلا رُعبٍ .. ويُفزِعُني |
هجرُ الحبيبِ الذي أغليتُهُ .. فسَلا |
أشكو إليكِ حسانَ الأرضِ قاطبةً |
عشقتهنّ .. فكانَ العشقُ ما قَتَلا |
ويلاهُ من حرقةِ الولهانِ ... يتركُهُ |
مع الصبابةِ .. شوقٌ ودّع الأملا |
أشكو إليكِ من الستّينِ ما خَضبَتْ |
من لي بشيبٍ إذا عاتبتهُ نَصَلا ؟! |
تهامسَ الغيدُ "ياعمّي!" فوا أسفاً |
أصيرُ عمّا.. وكنتُ اليافِعَ الغَزِلا |
لا تعجبي من دماءِ القلبِ نازفةً |
واستغربي إن رأيتِ القلبَ مندمِلا |
* |
يا أمُّ ! جرحُ الهوى يحلو .. إذا ذكرتْ |
روحي مرارةَ شَعبٍ يرضَعُ الأَسَلا |
يفدي الصغارُ بنهرِ الدمِّ مَقدسنا |
مالي أقلّبُ طرفي .. لا أرى رجلا ؟! |
أرى الجماهيرَ .. لكن لا أرى الدُوَلا |
أرى البطولة .. لكن لا أرى البطلا |
لا تَذكري .. لي صلاحَ الدين .. لو رجعتْ |
أيَّامُه .. لارتمى في قبرهِ خجَلا |
أين الكرامةُ .. هل ماتتْ بغُصّتِها ؟ |
أين الإباءُ .. أملَّ الجُبْنَ .. فارتحلا ؟ |
عجبتُ من أمّةِ القرآنِ .. كيفَ غَدَتْ |
ضجيعةَ الذُلِّ .. لا ترضى به بدَلا |
أسطورةُ السِلْمِ .. ما زلنا نعاقرُها |
يا مَنْ يصدّق ذئباً صادقَ الحَمَلا ! |
حمامةُ السِلمِ .. حُلمي أن أقطعها |
وأن أعود بصقرٍ يقنصُ الوَجَلا |
"شارونُ" نحن صنعناهُ بخشْـيـَتـِنا |
كم خشيةٍ صنعتْ من فأرةٍ جَبَلا |
تعملقَ القِزْمُ .. لمّا قُزّمت قِمَمٌ |
واستُنْسِختْ نملةٌ في ذُعرنا جَمَلا |
هاتِ الفؤادَ الذي ثارَ اليقينُ بهِ |
واقذفْ بيَ النصرَ .. أو فاقذف بيَ الأجَلاَ |
* |
أمَّ النخيل ! ... هبيني نخلةً ذَبُلتْ |
هل ينبتُ النخلُ غضّاً بعد أن ذَبـُلا ؟! |
يا أمُّ .. رُدّي على قلبي طفولَته |
وأرجعي لي شباباً ناعماً أفِلا |
وطهّري بمياهِ العينِ .. أوردتي |
قد ينجلي الهمُّ عن صدري إذا غُسـِلا |
هاتي الصبيَّ ... ودُنياه .. ولُعبـَتـَه |
وهاكِ عُمري ... وبُـقيا الروحِ والمُـقَلاَ |
* |
* |
غازي القصيبي |
2001م |
من ديوانه: للشهداء |