بسم الله الرحمن الرحيم


ذات يوم .. استيقظت من نومي مبكراً على غير العادة ..!!

نظرت إلى ساعة غرفتي فإذا بها تشير إلى السابعة تماماً ..!!

يا إلهي .. لقد تأخرت ..!!

نهضت وارتديت ملابسي بسرعة حتى لا يفوتني الموعد ..!!

( صح النوم يا أبو الشباب .. وش مواعيده ووش خرابيطه أنت وخشتك اللي مدري وش تبي؟ )

هكذا حدثتني نفسي وأنا على عتبة الباب ..!!

يا لغبائي المفرط .. لا يوجد موعد أصلاً حتى أتأخر عليه..!!!

لم أدرك سر استيقاظي مبكراً دون موعد إلا بعد تذكري أني نمت البارحة بعد صلاة العشاء مباشرة ..!!

ماذا أفعل الآن؟ هل أعود للنوم مرة أخرى؟ ولكن النوم لن يأتيني .. فقد استنفدت مخزوني اليومي من النوم كله..!!

هل أشاهد مع الأطفال ( سبيس توون ) وحلقات توم وجيري؟!! لا لا .. فقد كبرت عن ذلك..!!

لم يتبقى لي سوى الخروج من البيت..!! ولكن المشكلة تكمن فيمن سيخرج معي؟

فأغلب أصدقائي إما موظفون وهم الآن ذاهبون لأعمالهم .. وإما عاطلون ينامون النهار كله..!!

ألقيت نظرة على جيش الأطفال وهم يشاهدون حلقة من مسلسل ( النمر المقنع ) الكارتوني ..!! تحمست لفكرة المشاهدة

معهم .. ولكن ما إن رأيت علامات الدهشة والاستغراب بادية على وجوههم حينما هممت بالجلوس ..

حتى غيرت الفكرة مباشرة وتظاهرت أمامهم بالتمرين ( جلوس قيام) ..!!

خرجت من البيت مهموماً منكسراً وحيداً .. انطلقت بسيارتي إلى حيث لا أعلم .. هائماً على وجهي ..!!

توقفت عند أحد المحلات التجارية لأشتري مشروباً بارداً فلهيب الشمس أجهدني..!!

دخلت المحل واشتريت مشروبي المفضل (بيبسي ماكس) وخرجت..!!

لاحظت عند خروجي من المحل شيخاً كبيراً بلغ من الكبر عتياً حتى انحنى ظهره جالس على رصيف المحل يطلب من

الناس ما تجود به أنفسهم ..!!

لفت نظري في هذا الشيخ الستيني النحيل الشبه الكبير بينه وبين شخصية أبو مساعد في المسلسل الرمضاني

"طاش ما طاش" إضافة إلى سرواله الأخضر الطويل الذي يلبسه تحت ثوبه..!!

خطرت في بالي فكرة .. فوقفت أمامه وأخرجت من محفظة نقودي ورقيتين ماليتين .. احداهما من فئة: "ريال واحد"

والأخرى من فئة : "مائة ريال" ..!!

نظر إلي الشيخ الكبير -وكأني بلعابه يسيل من المبلغ الذي بيدي- وهو يدعو لي بصوت مرتفع ..!!

قاطعت دعاءه بسؤال ظاهره السذاجة : وش تختار يا عم؟ الريال ولا المية؟

رد الشيخ: والله يا ولدي .. أنت وجودك ..اللي يجي منك خير وبركة .. والله بيعوضك أبرك منه..!!

ناولته الريال قائلاً : أجل خذ هالريال .. هذا هو جودي ..!!

أرجعت الـ ( مائة ريال ) إلى جيبي .. بينما عيون الشيخ ممتلئة حقداُ علي وندماً على ضياع الـمائة منه ..!!

ناداني الشيخ بعد أن أدبرت ..!! علمت ما يريد فبادرته قائلاً : أدري أنك تبي المية .. ما بأطول عليك .. بأعلمك وش
أخطط له لأن الشمس أحرقتني ..!!

الشيخ باستغراب : وش تخطط له ؟ ما فهمت؟

أوضحت له: اسمع .. ما فيه شي ببلاش هالأيام .. كل شي بحقه .. باختـصـ......

قاطعني بعصبية: يلعن حريشك يا حقير استح على وجهك ياللي فيك وفيك ..!!

حاولت تهدئة الشيخ وإفهامه دون جدوى .. فاهتديت إلى طريقه لإسكاته خوفاً من الفضيحة ..

أخرجت الـمائة من جيبي ولوّحت بها أمام ناظريه .. فلما شاهدها هدأ وسكت وسال اللعاب من جديد..!!

استغليت فرصة هدوئه وقلت له: افهمني أنت وتفكيرك التعبان .. باختصار : كل من أعرفه يصجني بشيخي الجليل
قال لي.. شيخي الجليل نصحني .. شيخي الجليل اشترى لي حلوى ...!! ما فيه إلا أنا ما عندي شيخ جليل ..!!

الشيخ وهو ما يزال ينظر للمائة: ما فهمت ... ممكن توضح أكثر؟

أجبته: الموضوع وما فيه .. أني خيرتك بين الريال .. وبين المية..!! أعطيك الريال لوجه الله؟ .. أو أعطيك المية وتصير
شيخي الجليل حتى صلاة الظهر؟!!!

الشيخ: الله يصلحك .. وراك ما تقول كذا من الأول؟ راح ظني بعيد..!!

أنا : الله يصلح ظنك بس .. ما عطيتني فرصة أوضح لك أنت وخشتك .. المهم وش قلت؟

الشيخ: أفا عليك بس .. ترى ما بأوافق عشان المية .. لا .. أنا موافق عشان ما تتفشل عند أخوياك وما يكون عندك
شيخ جليل تتفاخر قدامهم به..!! :p

أنا: إيه صح .. يالله أقول خذ هالمية وخلنا نركب السيارة نشوف الحكم العظيمة اللي بتتحفنا بها ..!!

الشيخ: توكلنا على الله .. وابشر بالحكم والنصايح .. والله لأخليك أكبر فيلسوف عند أخوياك..!!

أنا: بنشووف ..!!

ركب الشيخ برفقتي في السيارة .. كانت رائحته جداً مزعجة ولكن من أجل الحكم لم يكن لي بد من الصبر ..!!

بينما هو بجانبي تذكرت قصة ذلك الرجل الذي أركب شيخاً لا يعرفه .. فلما نظر إلى أقدامه وجدها كحوافر الحمار

أوجست من هذا الشيخ خيفة ودعوت الله كثيراً ألا يكون جنياً

وبصعوبة بالغة رفعت الثوب عن ساقيه وقلبي يكاد يتوقف من شدة الخوف

ونظرت إلى قدميه وإذا بها كأقدام البشر ..

حمدت الله كثيراً ثم تذكرت الريال الذي كنت قد أعطيته الشيخ..!!

فقلت له: أقول يا شيخي الجليل هات ريالي ..!

الشيخ: لماذا يا أخا العرب؟ ماذا فعلت لك حتى تسلبني ما وهبه الله لي؟

أنا: يخرب بيت أبو شكلك وش ذا؟

الشيخ نافخاً صدره: حتى الآن لم ترَ شيئاً .. هذه مجرد (بروفة)..!!

أنا: لا لا لا .. أقصد وش هالفصحى اللي ما أدانيها؟

الشيخ: ألست الآن شيخك الجليل؟ إذاً لا بد من التخاطب معك باللغة العربية الفصحى..!!

أنا: هيييي لحظة .. أول شي رجع ريالي لأني متفق معك على مية بس .. أما الريال يرجع لي .. ثاني شي لا عمرك

تتكلم معي بالفصحى ثاني مرة والا اعتبر اتفاقنا ملغي وترجع فلوسي ..!!

الشيخ : طيب .. خذ ريالك ولا يكثر .. ولا تخاف من الفصحى ما راح تتكرر يالبخيل..!!

أخذت الريال وانطلقنا نجوب الطرقات علّـنا نجد شيئاً غريباً في طريقنا وأستفيد من هذا الشيخ الجليل..!!

بعد نصف ساعة من الصمت المطبق داخل السيارة .. كسرت حاجز الصمت قائلاً لشيخي الجليل بعصبية:

- أمحق شيخ جليل .. وين نصايحك وحكمك اللي قاعد تهايط لي فيها؟ لك نص ساعة ساكت.. ترى بترجع فلوسي!!

الشيخ الجليل: إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة يا ابني..!!

أنا: أنا الغلطان .. ولا من يشوف خشتك اللي كنها خشة أبومساعد يدري ان ما منك رجاء ..!!

الشيخ الجليل بدهشة : وش دراك اني أبو مساعد؟؟!!

أنا: عز الله أنك كملت .. شبيه أبو مساعد صار شيخي الجليل .. يا فضيحتي فضيحتاااااااه ..!!

الشيخ الجليل: لا تغرك خشتي .. ترى عندي مواهب تتفاجأ لو تدري عنها .. خذ هالحكمة على الطاير:
" مـن جـد وجـد .. ومـن زرع حـصـد" .. هاه وش رايك؟ سجلها عندك وعلم أخوياك يمكن ما يدرون عنها ..!!

أوقفت سيارتي بسرعة وقلت له وأنا أندب حظي العاثر:

- أنت من وين طلعت لي .. يرحم أمك وش أسوي لك؟ أبكي؟ أقطع ثيابي؟ وش هالدلاخة كلها اللي فيك؟
هذي حكمة الحين؟ تبي تفضحنا أنت؟ أشوا أني عارفها من الابتدائية ولا كان فشلتني قدام ربعي..!!

رن هاتف الشيخ الجليل المحمول .. فأخرجه من جيبه وطلب مني بشدة التزام الصمت بعد أن رأى اسم المتصل ..!!

رد شيخي الجليل على المكالمة بصوت هادئ يميل للميوعة قليلاً ... لزمت الصمت كما طلب مني ..!!

إلا أن شعر رأسي وقف حين سماعي لصوت المتكلم الآخر ..!!

كان الصوت صوت أنثى ..!!

حاولت إحسان الظن بشيخي الجليل واقناع نفسي بأن المتصلة ابنته أو احدى قريباته.. لو لا أن طريقته في التحدث

لا توحي بذلك .. إضافة إلى كلمات الغزل والحب التي كانت تلقى أمامي ..!!

انتهى الشيخ من المكالمة بعد أن طبع قبلة خفيفة على الهاتف ظناً منه أني غير منتبه إليه..!!

بادرته بالسؤال: يا شيخي الجليل من هذا اللي تكلمه؟

الشيخ الجليل: هذا واحد ما تعرفه..!!

أنا: باللهي؟ لا تكفى علمني .. يمكن أطلع أعرفه وأنت ما تدري .. أقول .. من هذي اللي تكلمها وتغازلها
وترسل لها بوسة؟ ترى سمعت كل شي .. علمني ولا ترى بأرجع فلوسي..!!

الشيخ وقد أسقط في يده: طيب طيب .. هذي خويتي.. وش فيها؟ ما فيها شي..!

أنا: ما شاء الله وش هالشيخ الـ جليل الحيا؟ ما تستحي على وجهك؟ خلها تشوف خشتك أول والله أن تسحب عليك ..!

الشيخ: القلب وما يهوى .. تصدق أن عمرها 21 ؟ وهي اللي رقمتني واشترت لي الجوال؟

أنا: يؤ يؤ .. تستهبل أنت؟ 21 ورقمتك واشترت لك هالجوال الجديد؟ وشلون؟

الشيخ: لا أكلمك جد .. مرة من المرات وأنا أمارس مهنتي الشريفة في الطرارة .. مرت هالبنت من جنبي وعطتني 20 ريال.. من الفرحة قعدت أطالع بالفلوس وشفت فيها رقم.. ما اهتميت فيه بالبداية.. لحد ما جاء بعد يومين وعطتني 20
ريال ثانية .. ومكتوب فيها هذا رقمي دق علي ولا تنسى تمسح الرقم ..!
وبعد يومين جات نفس البنت وعطتني 20 ريال مثل كل مرة .. وعطيتها ريال يعنني أرجع الصرف ..!!

قاطعته: وليه ترجع الريال يالغبي؟ تبي تخققها بالريال يعنني كريم؟

رد علي قائلاً: لا وش شايفني؟ خروف قالوا لك؟ أنا كاتب لها بالريال: "ما عندي جوال"..!!

أنا : أهاااا يالخبيث .. عرفت تلعبها صح .. واشترت لك جوال بعدها ...!! بس غريبة ما لقت غيرك يالشايب الطرار؟!!

الشيخ الجليل: تصدق؟ هالبنت مسكينة ..!!

أنا: أنا اشهد أني وياها مساكين اللي ابتلشنا فيك ..!!

الشيخ الجليل: البنت هذي كانت فاقدة الحنان .. أسرتها مشتتة .. كل واحد بصوب .. ما حد يسمع لها .. ما حد يهتم
لمشاكلها .. ماحد يعبرها .. صحيح وفروا لها كل اللي تبيه من فلوس وأشياء ثانية .. لكن البنت غير الولد .. ما يهمها
الفلوس كثر ما يهمها اهتمام أبوها وأخوها لها ... تخيل انها ما تشوف أخوانها إلا يوم الجمعة؟ يطلعون مع اخوياهم
وينسون أختهم اللي تحتاجهم..!!
البنت هذي كانت تحتاج أحد تفضفض له عن همومها .. كانت تبي تحس أن فيه أحد يهتم فيها .. كانت خايفة تطيح في
شاب ما يخاف الله .. فما لقت غيري تقدر تتطمن أنه ما يقدر يأذيها ..!!
لو كان لها أحد يهتم فيها .. ما راحت تدور برا ..!! طبعاً مو عذر لها على الخطأ .. لكن أهلها يتحملون الخطأ الأكبر..!

أنا : لا حول ولا قوة إلا بالله .. الله يكون بعونها بس..!! صح أنك خروف .. بس حكيم .. أفتخر فيك يا شيخي الجليل..!!

ها هي أولى قطرات الغيث قد هلّت .. وأخيراً نطق شيخي الجليل بكلام جميل .. واصلنا مسيرنا بعد أن كدنا نفترق..!!

وفي الطريق عند إحدى الإشارات .. كان هناك عجوز تسأل الناس .. استدعاها شيخي الجليل وأخرج من جيبه خمسة

ريالات وأعطاها لتلك العجوز ..!!

استغربت من هذا الشيخ الذي يتصدق وهو في حاجة لهذه الأموال فسألته:

- وش هالكرم يا شيخي الجليل؟ لا يكون مسجل رقمك بالفلوس .. ترى ما عدت أستغرب منك شي..!!

قال شيخي الجليل: لا ورب الكعبة .. يمكن تستغرب أني أشحذ وأقوم أتصدق.. لكن لا تستغرب وأنا عمك.. الصدقة
تمحي الذنوب .. وتدفع المصايب .. وتبارك في الرزق.. وترضي الرب ..!! الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
"اتقوا النار ولو بشق تمرة"..!
لو ما راحت هالخمسة ريال في صدقة .. أكيد راح تروح في شي ثاني ..!! شف كم تصرف في الشهر .. وشف كم تتصدق؟ الواحد منكم مستعد يعشي أخوياه عشاء محترم بأكثر من ميتين ريال .. ومو مستعد يتصدق بخمسة ريال تعشي
أسرة فقيرة معدمة..!!

أطرقت رأسي خجلاً من كلام هذا الشيخ الجليل .. في الحقيقة لو لم أستفد منه سوى هذا الكلام لكفى..!!

لم أنتبه لتحول الإشارة للضوء الأخضر إلا بعد سماعي لأصوات منبه السيارات من خلفي .. فانطلقت قدماً ..

هذه المرة أعرف أين نريد الذهاب..!!

اكتشفت أن الشيخ الجليل يملك من الحكمة ما لم أتوقعه .. ولا أظن السيارة ملائمة للحديث .. ففكرت في الذهاب إلى

العليا وبالتحديد (شارع التحلية) عند أحد محلات القهوة لنواصل الحديث بأريحية أكبر ..!!

ازداد احترامي لهذا الشيخ الجليل رغم كل ما حصل منه سابقاً .. فغيرت من أسلوبي معه في الكلام ..!!

يعد أن وصلنا للمحل المقصود .. أحضرت معي جهاز الكمبيوتر المحمول -الذي لا يكاد يفارقني-..!!

طلبت من العامل إحضار كوب من القهوة لي .. وطلب الشيخ مشروب الموكا البارد ..!!

فتحت جهازي المحمول ومباشرة انتقلت لموقع منتدى الزعيم .. تحديداً " المجلس العام" .. وأريت الشيخ الجليل بعض

المشاركات لي ولغيري ..!!

نظر إليها وكان يسألني كثيراً وأجيب .. بل كنت أوضح له بعض خفايا المنتدى دون أن يسأل..!

طلبت رأيه فيما رآه من مشاركات ..!!

قال لي: الحين بأسألك .. هالأشياء والأسرار .. وشلون عرفت عنها؟

أجبته: أكيد من أخوياي أجمعها من هنا وهناك .. وتتجمع براسي..!!

رد قائلاً: وش يضمن لك أن كل اللي جمعته بدميجتك صحيح؟ ;)

أجبته: ما فيه شي يضمن .. بس هذا اللي سمعته..!!

قال لي: كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع ..!! أسألك بالله هل النت يستاهل أنك تدخل النار عشانه؟
تتكلمون في أعراض الناس .. وتحشون في فلان وعلان .. وتزاعلون هذا وهذاك..!!
بالله هل المسألة تسوى كل هالأشياء؟
بكرة يموت واحد من اللي حشيت فيهم .. وش بيكون شعورك؟ ما بتندم وتحس بالذنب؟
الواحد المفروض يفكر ألف مرة قبل ما يرد.. كل ما كتبت إما يكون لك أو عليك..!!
قال الشاعر:
وما من كاتب إلا سيفنى .. ويبقي الدهر ما كتبت يداه..!!
فلا تكتب بكفك غير شيء .. يسرك في القيامة أن تراه..!!

لم أعرف بمَ أرد عليه سوى الإيماء برأسي موافقاً ومقتنعاً بكلامه..!!

طلبت منه أن يحدثني عن نفسه وعن عائلته.. فقد أذهلتني شخصيته الغريبة وأثارت فيّ الفضول ..!!

اغرورقت عيناه بالدموع وقال: وش تبيني أقول لك؟ أقول لك أن عندي عيال نسوا كل اللي سويته عشانهم؟

نسوا أني رفضت أتزوج بعد ما ماتت أمهم عشان ما أجيب لهم خالة تشغلني عنهم أو تظلمهم؟

نسوا أني أواصل الليل بالنهار عشان أوفر لهم فسحة المدرسة؟ نسوا مصاريف الجامعة اللي كنت أتسلفها عشانهم؟

تحملت ديون لأجل أعلمهم ويأمنون مستقبلهم بالشهادة الجامعية... وبالأخير بعد ما تزوجوا كل واحد راح وانشغل بحياته

وتركوني بعد ما صرت بدون فايدة..!!

توقف الشيخ قليلاً ليكفكف دموعه بطرف غترته .. ثم أكمل جاهشاً:

- تصدق حتى بالعيد ما أسمع احد منهم يسألني عن حالي أو يقول من العايدين يبه؟!!!
كل الناس تفرح بالعيد عشان يشوفون عيالهم وحبايبهم .. إلا أنا ما أبي العيد يجي عشان ما أشوف عيال الناس
وأتذكر عيالي اللي نسوا حتى بالعيد أن لهم أب يفكر فيهم ويتمنى يشوفهم ولو من بعيد

تنهد قليلاً ثم أكمل:

- أهم شي أنهم بخير ومبسوطين .. هذا اللي يهمني حتى لو ما شفتهم.. الله يوفقهم ويسعدهم..!!

لم أدري كيف أستطيع مواساته .. فأنا أيضاً تفطر قلبي من ترك أبنائه له حتى اضطر لسؤال الناس بالشوارع ..!!

قلت له بعد مجاهدة شديدة مع نفسي.. فقد خفت أن أبكي أيضاً فيزيد هم الشيخ بدلاً عن التخفيف عنه :

- الحمد لله اللي كافينك خيرهم وشرهم .. أبناء هالأيام ما يفكون أهلهم من شرهم ..!! :sad:

نظر إلي نظرة استغراب وقال:

- أشوفك صرت تتفلسف وتنصح أنت ووجهك؟ وش رايك تجي تصير شيخي الجليل أزين؟

ضحكت بشدة وضحك هو أيضاً .. فقد تعمد أن يخرجنا من هذا الجو الكئيب بأسلوبه المرح..!!

قال لي مبتسماً : لقط لقط .. ترى وجهك تناثر على الطاولة ..!!

قلت منحرجاً: والله الشرهه على اللي يبي يتعلم ويستفيد منك يا أبو مساعد ..!!

في هذه الأثناء اتصل علي صديقي بسام ... استأذنت من شيخي الجليل ورددت عليه:

أنا: هلا وغلا بسام ..!

بسام بسرعة : شف .. ترى ما عندي رصيد .. بس أبي أذكرك بالأشرطة لا تنساها تكفى..!

أنا: أها .. أبشر أبشر .. ولا يهمك ما تجي من الدوام إلا وهي عندك ..!!

انتهت المكالمة .. والتفتّ على شيخي الجليل فإذا به ينظر إلي نظرة فضول عرفتها من خلال تعابير وجهه..!

قال: وش اللي بيكون عند خويك بعد الدوام؟

قلت: بس أشرطة أغاني نسختها له في سيديهات وبأعطيه اياها..!!

قال: وأنت وش بتستفيد؟

قلت: وش أستفيد؟ هذا خويي .. وأخدمه من عيوني..!!

قال: حلو تخدمه من عيونك .. لكن اخدمه بشي يفيده.. مو شي بيجي يوم الحساب ويقول :
(( ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً))!!
هالأشرطة بياخذ منها ذنوب.. وأنت راح تتحمل مثل ذنوبه بالتمام والكمال .. وإذا أهداها أحد راح تتضاعف
ذنوبك وأنت ما تدري وكل ما سمعها أحد بتاخذ ذنبه أنت .. وأنت غافل عن كل هذا..!! ما أقول لك اترك الأغاني
لأني أعرفك ما راح تتركها .. لكن تقدر تمتنع عن تحمل ذنوب الآخرين.. أنت ما تقدر تتحمل ذنوبك لحالك.. فما بالك بذنوب هالعالم كلهم..!! شف أغاني البلوتوث .. ترسلها لواحد وتنتشر لآلاف غيرك .. ومن بيتحملها ؟ أكيد أنت..!!والمشكلة أنك تشتري هالذنوب بدون أي مقابل أو فائدة..!!

كان كلام الشيخ الجليل كالصفعة المدوية على وجهي والتي أيقظتني من غفلتي ..!!

ما زدت عن قولي له: جزاك الله خير .. والله كنت غافل عن هالشي .. جزاك الله كل خير ..!!

أذن المؤذن معلناً دخول وقت صلاة الظهر وانتهاء رحلتي مع هذا الشيخ الجليل الذي استفدت منه عدة دروس كان

آخرها عند نزوله من السيارة عند نفس المكان الذي أخذته منه.. حيث قال:

- لا تحكم على الناس بالظاهر أو من أول مرة .. يا كم انصدمنا بناس كنا نأمل فيهم الخير وطلعوا عكس ما ظنينا فيهم.
ويا كم تفاجأنا بناس بغضناهم بدون سبب وطلعوا العكس وحبيناهم..!! لا تخلي الصورة الأولية اللي تأخذها عن أحد
حكم نهائي لحد ما تجربهم..!! خذني أقرب مثال وش كانت نظرتك الأولية عني.. وقارنها بنظرتك الحين..!!


انتهت رحلتي مع شيخي الجليل التي استمتعت بها شخصياً وأتمنى أن تكونوا قد استمتعتم بها واستفدتم من الدرر التي

نطق بها شيخي الجليل ..!!