المنتديات الموقع العربي الموقع الانجليزي الهلال تيوب بلوتوث صوتيات الهلال اهداف الهلال صور الهلال
العودة   نادي الهلال السعودي - شبكة الزعيم - الموقع الرسمي > المنتديات العامة > منتدى الثقافة الإسلامية
   

منتدى الثقافة الإسلامية لتناول المواضيع والقضايا الإسلامية الهامة والجوانب الدينية

إضافة رد
   
 
LinkBack أدوات الموضوع طريقة عرض الموضوع
  #1  
قديم 23/03/2004, 11:49 AM
الصورة الرمزية الخاصة بـ srabالهلال
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 07/12/2002
المكان: السعودية - البديعه
مشاركات: 2,602
قاعدة في الأحكام التي تختلف بالسفر والإقامة ؟

بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخنا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏

أما بعد فهذه قاعدة في الأحكام التي تختلف بالسفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر في شهر رمضان ونحو ذلك وأكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم جعلوها نوعين نوعاً يختص بالسفر الطويل وهو القصر والفطر ونوعاً يقع في الطويل والقصير كالتيمم والصلاة على الراحلة وأكل الميتة هو من هذا القسم وأما المسح على الخفين والجمع بين الصلاتين فمن الأول وفي ذلك نزاع‏.‏

المقام الأول الفرق بين السفر الطويل والقصير هذا الفرق لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل الأحكام التي علقها الله بالسفر به مطلقاً كقوله تعالى في آية الطهارة‏:‏ ‏"‏ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط ‏"‏‏.‏

وقال تعالى في آية الصوم‏:‏ ‏"‏ فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ‏"‏‏.‏

وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ‏"‏‏.‏

وقول عائشة‏:‏ فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة الحضر‏.‏

وقول عمر‏:‏ صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ‏"‏‏.‏

وقول صفوان بن عسال‏:‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً أو مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط أو بول أو نوم‏.‏

وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم ‏"‏‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليتعجل الرجوع إلى أهله ‏"‏‏.‏

فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر طويل وسفر قصير فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه فرقاً لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله وهذا الذي ذكر من تعليق الشارع الحكم بمسمى الاسم المطلق وتفريق بعض الناس بين نوع ونوع من غير دلالة شرعية له نظائر منها أن الشارع علق الطهارة بمسمى الماء في قوله‏:‏ ‏"‏ فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً ‏"‏ ولم يفرق بين ماء وماء ولم يجعل الماء نوعين طاهراً وطهوراً‏.‏

ومنها أن الشارع علق المسح بمسمى الخف ولم يفرق بين خف وخف فيدخل في ذلك المفتوق والمخروق وغيرهما من غير تحديد ولم يشترط أيضاً أن يثبت بنفسه‏.‏

ومن ذلك أنه أثبت الرجعة في مسمى الطلاق بعد الدخول ولم يقسم طلاق المدخول بها إلى ومن ذلك أنه أثبت الطلق الثالثة بعد طلقتين وافتداءً والافتداء الفرقة بعوض وجعلها موجبة للبينونة بغير طلاق يحسب من الثلاث‏.‏

وهذا الحكم معلق بهذا المسمى لم يفرق فيه بين لفظ ولفظ‏.‏

ومن ذلك أنه علق الكفارة بمسمى أيمان المسلمين في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ‏"‏ ولم يفرق بين يمين ويمين من أيمان المسلمين فجعل أيمان المسلمين المنعقدة تنقسم إلى مكفرة وغير مكفرة مخالف لذلك‏.‏

ومن ذلك أنه علق التحريم بمسمى الخمر ولبين أن الخمر هي المسكر في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ‏"‏ ولم يفرق بين مسكر ومسكر‏.‏

ومن ذلك أنه علق الحكم بمسمى الإقامة كما علقه بمسمى السفر ولم يفرق بين مقيم ومقيم فجعل المقيم نوعين نوعاً تجب عليه الجمعة بغيره ولا تنعقد به ونوعاً تنعقد به لا أصل له‏.‏

بل الواجب أن هذه الأحكام لما علقها الشارع بمسمى السفر فهي تتعلق بكل سفر سواء كان ذلك السفر طويلاً أو قصيراً ولكن ثم أمور ليست من خصائصه السفر بل تشرع في السفر والحضر فإن المضطر إلى أكل الميتة لم يخص الله حكمه بسفر لكن الضرورة أكثر ما تقع به في السفر فهذا لا فرق فيه بين الحضر والسفر الطويل والقصير فلا يجعل هذا معلقاً بالسفر‏.‏

أحدهما‏:‏ لا يجوز كمذهب الشافعي قياساً على القصر‏.‏

والثاني‏:‏ يجوز كقول مالك لأن ذلك شرع في الحضر للمرض والمطر فصار كأكل الميتة‏.‏

إنما علته الحاجة لا السفر وهذا هو الصواب فإن الجمع بين الصلاتين ليس معلقاً بالسفر وإنما يجوز للحاجة بخلاف القصر‏.‏

وأما الصلاة على الراحلة فقد ثبت في الصحيح بل استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على راحلته في السفر أي وجه توجهت به ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة وهل يسوغ ذلك في الحضر فيه قولان في مذهب أحمد وغيره فإذا جوز في الحضر ففي القصر أولى وأما إذا منع في الحضر فالفرق بينه وبين القصر والفطر يحتاج إلى دليل‏.‏

المقام الثاني حد السفر الذي علق الشارع به الفطر والقصر وهذا مما اضطرب الناس فيه‏:‏ ثلاثة أيام وقيل‏:‏ يومين قاصدين وقيل‏:‏ أقل من ذلك حتى قيل‏:‏ ميل‏.‏

والذين حددوا ذلك بالمسافة منهم من قال‏:‏ ثمانية وأربعون ميلاً وقيل‏:‏ ستة وأربعون وقيل‏:‏ خمسة وأربعون وقيل أربعون وهذه أقوال عن مالك وقد قال أبو محمد المقدسي‏:‏ لا أعلم لما ذهب إليه الأئمة وجهاً‏.‏

وهو كما قال رحمه الله فإن التحديد بذلك ليس ثابتاً بنص ولا إجماع ولا قياس وعامة هؤلاء يفرقون بين السفر الطويل والقصير ويجعلون ذلك حداً للسفر الطويل ومنهم من لا يسمي سفراً إلا ما بلغ هذا الحد وما دون ذلك لا يسميه سفراً فالذين قالوا‏:‏ ثلاثة أيام احتجوا بقوله‏:‏ ‏"‏ يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن ‏"‏ وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏"‏ لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم ‏"‏ وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏"‏ مسيرة يومين ‏"‏ وثبت في الصحيح‏:‏ ‏"‏ مسيرة يوم ‏"‏ وفي السنن‏:‏ ‏"‏ بريداً ‏"‏ فدل على أن ذلك كله سفر وإذنه له في المسح ثلاثة أيام إنما هو تجويز لمن سافر ذلك وهو لا يقتضي أن ذلك أقل السفر كما أذن للمقيم أن يمسح يوماً وليلة وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإقامة والذين قالوا‏:‏ يومين اعتمدوا على قول ابن عمر وابن عباس والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة حتى ابن عمر وابن عباس وما روي ‏"‏ يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان ‏"‏ إنما هو من قول ابن عباس ورواية ابن خزيمة وغيره له مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم باطل بلا شك عند أئمة أهل الحديث وكيف يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة بالتحديد وإنما أقام بعد الهجرة زمناً يسيراً وهو بالمدينة لا يحد لأهلها حداً كما حده لأهل مكة وما بال التحديد يكون وأيضاً فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إلى معرفة مقدار مساحة الأرض وهذا أمر لا يعلمه إلا خاصة الناس ومن ذكره فإنما يخبر به عن غيره تقليداً وليس هو مما يقطع به والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر الأرض بمساحة أصلاً فكيف يقدر الشارع لأمته حداً لم يجربه له ذكر في كلامه وهو مبعوث إلى جميع الناس فلا بد أن يكون مقدار السفر معلوماً علماً عاماً وذرع الأرض مما لا يمكن بل هو إما متعذر وإما متعسر لأنه إذا أمكن الملوك ونحوهم مسح طريق فإنما يمسحونه على خطٍ مستوٍ أو خطوط منحنية انحناءً مضبوطاً ومعلوم أن المسافرين قد يعرفون غير تلك الطريق وقد يكون في المسافة صعود وقد يطول سفر بعضهم لبطء حركته ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته والسبب الموجب هو نفس السفر لا نفس مساحة الأرض‏.‏

والموجود في كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في تقدير الأرض بالأزمنة كقوله في الحوض ‏"‏ طوله شهر وعرضه شهر ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ بين السماء والأرض خمسمائة سنة ‏"‏ وفي حديث آخر‏:‏ ‏"‏ إحدى أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ‏"‏ فقيل الأول بالسير المعتاد سير الإبل والأقدام والثاني سير البريد فإنه في العادة يقطع بقدر المعتاد سبع مرات وكذلك الصحابة يقولون يوم تام ويومان ولهذا قال من حده بثمانية وأربعين ميلاً مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام لكن هذا لا دليل عليه‏.‏

وإذا كان كذلك فنقول كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف فما كان سفراً في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم وذلك مثل سفر أهل مكة إلى عرفة فإن هذه المسافة بريد وهذا سفر ثبت فيه جواز القصر والجمع بالسنة والبريد هو نصف يوم بسير الإبل والأقدام وهو ربع مسافة يومين وليلتين وهو الذي قد يسمى مسافة وهو الذي يمكن الذاهب إليها أن يرجع من يومه وأما ما دون هذه المسافة إن مسافة القصر محدودة بالمساحة فقد قيل يقصر في ميل وروي عن ابن عمر أنه قال لو سافرت ميلاً لقصرت قال ابن حزم لم نجد أحداً يقصر في أقل من ميل ووجد ابن عمرو وغيره يقصرون في هذا القدر ولم يحد الشارع في السفر حداً فقلنا بذلك إتباعاً للسنة مطلقة ولم نجد أحداً يقصر بما دون الميل ولكن هو على أصله وليس هذا إجماعاً فإذا كان ظاهر النص يتناول ما دون ذلك لم يضره أن لا يعرف أحداً ذهب إليه كعادته في أمثاله وأيضاً فليس في قول ابن عمر أنه لا يقصر في أقل من ذلك وأيضاً فقد ثبت عن ابن عمر أنه كان لا يقصر في يوم أو يومين فإما أن تتعارض أقواله أو تحمل على اختلاف الأحوال والكلام في مقامين‏:‏ المقام الأول أن من سافر مثل سفر أهل مكة إلى عرفات يقصر وأما إذا قيل ليست محدودة بالمسافة بل الاعتبار بما هو سفر فمن سافر ما يسمى سفراً قصر وإلا فلا‏.‏

وقد يركب الرجل فرسخاً يخرج به لكشف أمر وتكون المسافة أميالاً ويرجع في ساعة أو ساعتين ولا يسمى مسافراً وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة بأن يسير على الإبل والأقدام سيراً لا يرجع فيه ذلك اليوم إلى مكانه والدليل على ذلك من وجوه‏:‏ أحدها‏:‏ أنه قد ثبت بالنقل الصحيح المتفق عليه بين علماء أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان يقصر الصلاة بعرفة ومزدلفة وفي أيام منى وكذلك أبو بكر وعمر بعده وكان يصلي خلفهم أهل مكة ولم يأمروهم بإتمام الصلاة ولا نقل أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة لما صلى بالمسلمين ببطن عرنة الظهر ركعتين قصراً وجمعاً ثم العصر ركعتين‏:‏ ‏"‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم ‏"‏ ولا أمرهم بتأخير صلاة العصر ولا نقل أحد أن أحداً من الحجيج لا أهل مكة ولا غيرهم صلى الله عليه وسلم خلاف ما صلى بجمهور ما صلى بجمهور المسلمين أو نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أو عمر قال بهذا اليوم‏:‏ ‏"‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ‏"‏ فقد غلط وإنما نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في جوف مكة لأهل مكة عام الفتح وقد ثبت أن عمر بن الخطاب لأهل مكة لما صلى في جوف مكة ومن المعلوم أنه لو كان أهل مكة قاموا فأتموا وصلوا أربعاً وفعلوا ذلك بعرفة ومزدلفة وبمنى أيام منى لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بالضرورة بل لو أخروا صلاة العصر ثم قاموا دون سائر الحجاج فصلوها قصراً لنقل ذلك فكيف إذا أتموا الظهر أربعاً دون سائر المسلمين وأيضاً إذا أخذوا في إتمام العصر والنبي صلى الله عليه وسلم قد شرع في الظهر لكان إما أن ينتظرهم فيطيل القيام وإما أن يفوتهم معه بعض العصر بل أكثرها فكيف إذا كانوا يتمون الصلوات وهذا حجة على كل أحد وهو على من يقول إن أهل مكة جمعوا معه أظهر وذلك أن العلماء تنازعوا في أهل مكة هل يقصرون ويجمعون بعرفة على ثلاثة أقوال‏:‏ فقيل لا يقصرون ولا يجمعون وهذا هو المشهور عند أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالقاضي في المجرد وابن عقيل في الفصول لاعتقادهم أن ذلك معلق بالسفر الطويل وهذا قصير‏.‏

والثاني انهم يجمعون ولا يقصرون وهذا مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد ومن أصحاب الشافعي والمنقولات عن أحمد توافق هذا فإنه أجاب في غير موضع بأنهم لا يقصرون ولم يقل لا يجمعون وهذا هو الذي رجحه أبو محمد المقدسي في الجمع وأحسن في ذلك‏.‏

والثالث أنهم يجمعون ويقصرون وهذا مذهب مالك وإسحق بن راهويه وهو قول طاوس وابن عيينة وغيرهما من السلف وقول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي كأبي الخطاب في العبادات الخمس وهو الذي رجحه أبو محمد المقدسي وغيره من أصحاب أحمد فإن أبا محمد وموافقيه رجحوا الجمع للمكي بعرفة وأما القصر فقال أبو محمد‏:‏ الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه والمعلوم إن الإجماع لم ينعقد على خلافه وهو اختيار طائفة من علماء أصحاب أحمد كان بعضهم يقصر الصلاة في مسيرة بريد وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه لمن تبين السنة وتدبرها فإن من تأمل الأحاديث في حجة الوداع وسياقها علم علماً يقيناً أن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة وغيرهم صلوا بصلاته قصراً وجمعاً ولم يفعلوا خلاف ذلك ولم ينقل أحد قط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا بعرفة ولا بمزدلفة ولا منى‏:‏ ‏"‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم مسافر ‏"‏ وإنما نقل أنه قال ذلك في نفس مكة كما رواه أهل السنن عنه وقوله ذلك في داخل مكة دون عرفة ومزدلفة ومنى دليل على الفرق وقد روي من جهة أهل العراق عن عمر أنه كان يقول بمنى ‏"‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ‏"‏ وليس له إسناد‏.‏

وإذا ثبت ذلك فالجمع بين الصلاتين قد يقال أنه لأجل النسك كما تقوله الحنفية وطائفة من أصحاب أحمد وهو مقتضى نصه فإنه يمنع المكي من القصر بعرفة ولم يمنعه من الجمع وقال في جمع المسافر أنه يجمع في الطويل كالقصر عنده وإذا قيل الجمع لأجل النسك ففيه قولان أحدهما لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة كما تقوله الحنفية والثاني أنه يجمع لغير ذلك من الأسباب المقتضية للجمع وإن لم يكن سفراً وهو مذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وقد يقال لأن ذلك سفر قصي وهو يجوز الجمع في السفر القصير كما قال هذا وهذا بعض الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فإن الجمع لا يختص بالسفر والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة ولم يجمع بمنى ولا في ذهابه وإيابه ولكن جمع قبل ذلك في غزوة تبوك والصحيح أنه لم يجمع بعرفة لمجرد السفر كما قصر للسفر بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النزول ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة وكان جمع عرفة لأجل العبادة وجمع مزدلفة لأجل السير الذي جد فيه وهو سيره إلى مزدلفة وكذلك كان يصنع في سفره كان إذا جد به السير أخر الأولى إلى وقت الثانية ثم ينزل فيصليهما جميعاً كما فعل بمزدلفة وليس في شريعته ما هو خارج عن القياس بل الجمع الذي جمعه هناك يشرع أن يفعل نظيره كما يقوله الأكثرون ولكن أبو حنيفة يقول هو خارج عن القياس وقد علم أن تخصيص العلة إذا لم تكن لفوات شرط أو وجود مانع دل على فسادها وليس فيما جاء من عند الله اختلاف ولا تناقض بل حكم الشيء حكم مثله والحكم إذا ثبت بعلة ثبت بنظيرها‏.‏

وأما القصر فلا ريب أنه من خصائص السفر ولا تعلق له بالنسك ولا مسوغ لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها إلا أنهم بسفر وعرفة عن المسجد بريد كما ذكره الذين مسحوا ذلك وذكره الأزرقي في أخبار مكة فهذا قصر في سفر قدره بريد وهم لما رجعوا إلى منى كانوا في الرجوع من السفر وإنما كان غاية قصدهم بريداً وأي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك من بلادهم والله لم يرخص في الصلاة ركعتين إلا لمسافر فعلم أنهم كانوا مسافرين والمقيم إذا اقتدى بمسافر فإنه يصلي أربعاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة في مكة ‏"‏ أتموا صلاتكم فإنا قوم مسافر ‏"‏ وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء ولكن في مذهب مالك نزاع‏.‏

الدليل الثاني‏:‏ أنه قد نهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم أو زوج تارة يقدر وتارة يطلق وأقل ما روي في التقدير بريد فدل ذلك على أن البريد يكون سفراً كما أن الثلاثة الأيام تكون سفراً واليومين تكون سفراً واليوم يكون سفراً هذه الأحاديث ليس لها مفهوم بل نهي عن هذا وهذا وهذا‏.‏

الدليل الثالث‏:‏ أن السفر لم يحده الشرع وليس له حد في اللغة فرجع فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه فما كان عندهم سفراً فهو سفر والمسافر يريد أن يذهب إلى مقصده ويعود إلى وطنه وأقل ذلك مرحلة يذهب في نصفها ويرجع في نصفها وهذا هو البريد وقد حدوا بهذه المسافة الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي والعدو على الخصم والحضانة وغير ذلك مما هو معروف في موضعه وهو أحد القولين في مذهب أحمد فلو كانت المسافة محددة لكان أحدها بالبريد أجود لكن الصواب أن السفر ليس محدداً بمسافة بل يختلف فيكون مسافراً في مسافة بريد وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافراً‏.‏

الدليل الرابع‏:‏ أن المسافر رخص الله له أن يفطر في رمضان وأقل الفطر يوم ومسافة البريد يذهب إليها ويرجع في يوم فيحتاج إلى الفطر في شهر رمضان ويحتاج أن يقصر الصلاة بخلاف ما دون ذلك فإنه قد لا يحتاج فيه إلى قصر ولا فطر إذا سافر أول النهار ورجع قبل الزوال وإذا كان غدوه يوماً ورواحه يوماً فإنه يحتاج إلى القصر والفطر وهذا قد يقتضي أنه قد يرخص له أن يقصر ويفطر في بريد وإن كان قد لا يرخص له في أكثر منه إذا لم يعد مسافراً‏.‏

الدليل الخامس‏:‏ أنه ليس تحديد من حد المسافة بثلاثة أيام بأولى ممن حدها بيومين ولا اليومان بأولى من يوم فوجب أن لا يكون لها حد بل كل ما يسمى سفراً يشرع وقد ثبت بالسنة القصر في مسافة بريد فعلم أن في الأسفار ما قد يكون بريداً وأدنى ما يسمى سفراً في كلام الشارع البريد وأما ما دون البريد كالميل فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي قباء كل سبت وكان يأتيه راكباً وماشياً ولا ريب أهل قباء وغيرهم من أهل العوالي كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ولم يقصر الصلاة هو ولا هم‏.‏

وقد كانوا يأتون الجمعة من نحو ميل وفرسخ ولا يقصرون الصلاة والجمعة على من سمع النداء والنداء قد يسمع من فرسخ وليس كل من وجبت عليه الجمعة أبيح له القصر والعوالي بعضها من المدينة وإن كان اسم المدينة يتناول جميع المساكن كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ‏"‏‏.‏

وأما ما نقل عن ابن عمر فينظر فيه هل هو ثابت أم لا فإن ثبت فالرواية عنه مختلفة وقد خالفه غيره من الصحابة ولعله أراد إذا قطعت من المسافة ميلاً ولا ريب أن قباء من المدينة أكثر من ميل وما كان ابن عمر ولا غيره يقصرون الصلاة إذا ذهبوا إلى قباء فقصر أهل مكة الصلاة بعرفة وعدم قصر أهل المدينة الصلاة إلى قباء ونحوها مما حول المدينة دليل على الفرق والله أعلم‏.‏

والصلاة على الراحلة إذا كانت مختصة بالسفر لا تفعل إلا فيما يسمى سفراً ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في خروجه إلى مسجد قباء مع أنه كان يذهب إليه راكباً وماشياً ولا كان المسلمون الداخلون من العوالي يفعلون ذلك وهذا لأن هذه المسافة قريبة كالمسافة في المصر واسم المدينة يتناول المساكن كلها فلم يكن هناك إلا أهل المدينة والأعراب كما دل عليه القرآن فمن لم يكن من الأعراب كان من أهل المدينة وحينئذ فيكون مسيره إلى قباء كأنه في المدينة فلو سوغ ذلك سوغت الصلاة في المصر على الراحلة وإلا فلا فرق بينهما‏.‏

والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان يصلي بأصحابه جمعاً وقصر ألم يكن يأمر أحداً منهم بنية الجمع والقصر بل خرج من المدينة إلى مكة يصلي ركعتين من غير جمع ثم صلى بهم الظهر بعرفة ولم يعلمهم أنه يريد أن يصلي العصر بعدها ثم صلى بهم العصر ولم يكونوا نووا الجمع وهذا جمع تقديم وكذلك لما خرج من المدينة صلى بهم بذي الحليفة العصر ركعتين ولم يأمرهم بنية قصر وفي الصحيح أنه لما صلى إحدى صلاتي العشي وسلم من اثنتين قال له ذو اليدين‏:‏ أقصرت الصلاة أم نسيت قال‏:‏ ‏"‏ لم أنس ولم تقصر ‏"‏ قال‏:‏ بلى قد نسيت قال‏:‏ ‏"‏ أكما يقول ذو اليدين ‏"‏ قالوا‏:‏ نعم فأتم الصلاة ولو كان القصر لا يجوز إلا إذا نووه لبين ذلك ولكانوا يعلمون ذلك والإمام أحمد لم ينقل عنه فيما أعلم أنه اشترط النية في جمع ولا قصر ولكن ذكره طائفة من أصحابه كالخرقي والقاضي‏.‏

وأما أبو بكر عبد العزيز وغيره فقالوا إنما يوافق مطلق نصوصه وقالوا‏:‏ لا يشترط للجمع ولا للقصر نية وهو قول الجمهور من العلماء كمالك وأبي حنيفة وغيرهما بل قد نص أحمد على أن المسافر له أن يصلي العشاء قبل مغيب الشفق وعلل ذلك بأنه يجوز له الجمع كما نقله عنه أبو طالب والمروزي وذكر ذلك القاضي في الجامع الكبير فعلم أنه لا يشترط في الجمع النية ولا تشترط أيضاً المقارنة فإنه لما أباح أن تصلى العشاء قبل مغيب الشفق وعلله بأنه يجوز له الجمع لم يجز إن زاد به الشفق الأبيض لأن مذهبه المتواتر عنه أن المسافر يصلي العشاء بعد مغيب الشفق الأحمر وهو أول وقتها عنده وحينئذ يخرج وقت المغرب عنده فلم يكن مصلياً لها في وقت المغرب بل في وقتها الخاص وأما في الحضر فاستحب تأخيرها إلى أن يغيب الأبيض قال لأن الحمرة قد تسترها الحيطان فيظن أن الأحمر غاب ولم يغب فإذا غاب الأبيض تيقن مغيب الحمرة فالشفق عنده في الموضعين الحمرة لكن لما كان الشك في الحضر لاستتار الشفق بالحيطان احتاط بدخول الأبيض فهذا مذهبه المتواتر عن نصوصه الكثيرة‏.‏

وقد حكى بعضهم رواية أن الشفق في الحضر الأبيض وفي السفر الأحمر وهذه الرواية حقيقتها كما تقدم وإلا فلم يقل أحمد ولا غيره من علماء المسلمين أن الشفق في نفس الأمر يختلف بالحضر والسفر وأحمد قد علل الفرق فلو حكي عنه لفظ مجمل كان المفسر من كلامه يبينه‏.‏

وقد حكى بعضهم رواية عنه أن الشفق مطلق البياض وما أظن هذا إلا غلطاً عليه وإذا كان مذهبه أن أول الشفق إذا غاب في السفر خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء وهو يجوز للمسافر أن يصلي العشاء قبل مغيب الشفق وعلل ذلك بأنه يجوز له الجمع علم أنه صلاها قبل الثاني أن ذلك من كلامه يدل على أن الجمع عنده هو الجمع في الوقت وإن لم يصلْ إحداهما بالأخرى كالجمع في وقت الثانية على المشهور من مذهبه ومذهب غيره وأنه إذا صلى المغرب في أول وقتها والعشاء في آخر وقت المغرب حيث يجوز له الجمع جاز ذلك وقد نص أيضاً على نظير هذا فقال إذا صلى إحدى صلاتي الجمع في بيته والأخرى في المسجد فلا بأس وهذا نص منه على أن الجمع هو جمع في الوقت لا تشترط فيه المواصلة وقد تأول ذلك بعض أصحابه على قرب الفصل وهو خلاف النص ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم بالمدينة ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً لم ينقل أنه أمرهم ابتداء بالنية ولا السلف بعده وهذا قول الجمهور كأبي حنيفة ومالك وغيرهما وهو في القصر مبني على فرض المسافر فصارت الأقوال للعلماء في اقتران الفعل ثلاثة‏:‏ أحدها‏:‏ أنه لا يجب الاقتران لا في وقت الأولى ولا الثانية كما قد نص عليه أحمد كما ذكرناه في السفر وجمع المطر‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يجب الاقتران في وقت الأولى دون الثانية وهذا هو المشهور عند أكثر أصحابه المتأخرين وهو ظاهر مذهب الشافعي فإن كان الجمع في وقت الأولى اشترط الجمع وإن كان في وقت الآخرة فإنه يصلي الأولى في وقت الثانية وأما الثانية فيصليها في وقتها فتصح صلاته لها والثالث‏:‏ تشترط الموالاة في الموضعين كما يشترط الترتيب وهذا وجه في مذهب الشافعي وأحمد ومعنى ذلك أنه إذا صلى الأولى وأخر الثانية أثم وإن كان وقعت صحيحة لأنه لم يكن له إذا أخر الأولى إلا أن يصلي الثانية معها فإذا لم يفعل ذلك كان بمنزلة من أخرها إلى وقت الضرورة ويكون قد صلاها في وقتها معه الإثم‏.‏
حكم الموالاة بين صلاتي الجمع

والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال لا في وقت الأولى ولا في وقت الثانية فإنه ليس لذلك حد في الشرع ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة وهو شبيه بقول من حمل الجمع على الجمع بالفعل وهو أن يسلم من الأولى في آخر وقتها ويحرم بالثانية في أول وقتها كما تأول جمعه على ذلك طائفة من العلماء أصحاب أبي حنيفة وغيرهم ومراعاة هذا من أصعب الأشياء وأشقها فإنه يريد أن يبتدئ فيها إذا بقي من الوقت مقدار أربع ركعات أو ثلاث في المغرب ويريد مع ذلك أن لا يطيلها وإن كان بنية الإطالة تشرع في الوقت الذي يحتمل ذلك وإذا دخل في الصلاة ثم بدا له أن يطيلها أو أن ينتظر أحداً ليحصل الركوع والجماعة لم يشرع ذلك ويجتهد في أن يسلم قبل خروج الوقت ومعلوم أن مراعاة هذا من أصعب الأشياء علماً وعملاً وهو يشغل قلب المصلي غير مقصود الصلاة والجمع شرع رخصة ودفعاً للحرج عن الأمة فكيف لا يشرع إلا مع حرج شديد ومع ما ينقض مقصود الصلاة فعلم أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء يفعل ذلك على الوجه الذي يحصل به التيسير ورفع الحرج له ولأمته ولا يلتزم أنه لا يسلم من الأولى إلا قبل خروج وقتها الخاص وكيف يعلم ذلك المصلي في الصلاة وآخر وقت الظهر وأول وقت العصر إنما يعرف على سبيل التحديد بالظل والمصلي في الصلاة لا يمكنه معرفة الظل ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم آلات حسابية يعرف بها الوقت ولا موقّت يعرف ذلك بالآلات الحسابية والمغرب إنما يعرف آخر وقتها بالشفق فيحتاج إلى أن ينظر إلى جهة الغرب هل غرب الشفق الأحمر أو الأبيض والمصلي في الصلاة منهي عن مثل ذلك وإذا كان يصلي في بيت أو فسطاط أو نحو ذلك مما يستره عن الغرب ويتعذر عليه في الصلاة النظر إلى المغرب فلا يمكنه في هذه الحال أن يتحرى السلام في آخر وقت المغرب بل لا بد أن يسلم قبل خروج الوقت بزمن يعلم أنه معه يسلم قبل خروج الوقت‏.‏

ثم الثانية لا يمكنه على قولهم أن يشرع فيها حتى يعلم دخول الوقت وذلك يحتاج إلى عمل وكلفة مما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يراعيه بل ولا أصحابه فهؤلاء لا يمكن الجمع على قولهم في غالب الأوقات لغالب الناس إلا مع تفريق الفعل وأولئك لا يكون الجمع عندهم إلا مع اقتران الفعل وهؤلاء فهموا من الجمع اقتران الفعلين في وقت واحد أو وقتين وأولئك قالوا لا والسنة جاءت بأوسع من هذا وهذا ولم تكلف الناس لا هذا ولا هذا والجمع جائز في الوقت المشترك فتارة يجمع في أول الوقت كما جمع بعرفة وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة وفي بعض أسفاره وتارة يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين وقد يقعان معاً في آخر وقت الأولى وقد يقعان معاً في أول وقت الثانية وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا وكل هذا جائز لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة ففي عرفة ونحوها يكون التقديم هو السنة وكذلك جمع المطر السنة أن يجمع للمطر في وقت المغرب حتى اختلف مذهب أحمد هل يجوز أن يجمع للمطر في وقت الثانية على وجهين وقيل إن ظاهر كلامه أنه لا يجمع وفيه وجه ثالث أن الأفضل التأخير وهو غلط مخالف للسنة والإجماع القديم وصاحب هذا القول ظن أن التأخير في الجمع أفضل مطلقاً لأن الصلاة يجوز فعلها بعد الوقت عند النوم والنسيان ولا يجوز فعلها قبل الوقت بحال بل لو صلاها قبل الزوال وقبل الفجر أعادها وهذا غلط فإن الجمع بمزدلفة إنما المشروع فيه تأخير المغرب إلى وقت العشاء بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين وما علمت أحداً من العلماء سوغ له هناك أن يصلي العشاء في طريقه وإنما اختلفوا في المغرب هل له أن يصليها في طريقه على قولين وأما التأخير فهو كالتقديم بل صاحبه أحق بالذم ومن نام عن صلاة أو نسيها فإن وقتها في حقه حين يستيقظ ويذكرها وأما من صلى قبل الزوال وطلوع الفجر الذي يحصل به فإن كان متعمداً فهذا فعل ما لم يؤمر به وأما إن كان عاجزاً عن معرفة الوقت كالمحبوس الذي لا يمكنه معرفة الوقت فهذا في أجزائه قولان للعلماء وكذلك في صيامه إذا صام حيث لا يمكنه معرفة شهور رمضان كالأسير إذا صام بالتحري ثم تبين له أنه قبل الوقت ففي أجزائه قولان للعلماء وأما من صلى في المصر قبل الوقت غلطاً فهذا لم يفعل ما أمر به وهل تنعقد صلاته نفلاً أو تقع باطلة على وجهين في مذهب أحمد وغيره‏.‏

والمقصود أن الله لم يبح لأحد أن يؤخر الصلاة عن وقتها بحال كما لم يبح له أن يفعلها قبل وقتها فليس جمع التأخير بأولى من جمع التقديم بل ذاك بحسب الحاجة والمصلحة فقد يكون هذا أفضل وقد يكون هذا أفضل وهذا مذهب جمهور العلماء وهو ظاهر مذهب أحمد المنصوص عنه وغيره ومن أطلق من أصحابه القول بتفضيل أحدهما مطلقاً فقد أخطأ على مذهبه‏.‏
فصل في تمام الكلام في القصر وسبب إتمام عثمان الصلاة بمنى

في تمام الكلام في القصر وسبب إتمام عثمان الصلاة بمنى وقد تقدم فيها بعض أقوال الناس والقولان الأولان مرويان عن الزهري وقد ذكرهما أحمد روى عبد الرزاق‏:‏ أنا معمر عن الزهري قال إنما صلى عثمان بمنى أربعاً لأنه قد عزم على المقام بعد الحج ورجح الطحاوي هذا الوجه مع أنه ذكر الوجهين الآخرين فذكر ما رواه حماد بن سلمة عن أيوب عن الزهري قال‏:‏ إنما صلى عثمان بمنى أربعاً لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام فأحب أن يخبرهم أن الصلاة أربع قال الطحاوي فهذا يخبر أنه فعل ما فعل ليعلم الأعراب به أن الصلاة أربع‏.‏

فقد يحتمل أن يكون لما أراد أن يريهم ذلك نوى الإقامة فصار مقيماً فرضه أربع فصلى بهم أربعاً فالسبب الذي حكاه معمر الزهري ويحتمل أن يكون فعل ذلك وهو مسافر لتلك العلة قال‏:‏ والتأويل الأول أشبه عندنا لأن الأعراب كانوا بالصلاة وأحكامها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجهل منهم بها وبحكمها في زمن عثمان وهم بأمر الجاهلية حينئذ أحدث عهداً إذ كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العلم بفرض الصلوات أحوج منهم إلى ذلك في زمن عثمان فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتم الصلاة لتلك العلة ولكنه قصرها ليصلوا معه صلاة السفر على حكمها ويعلمهم صلاة الإقامة على حكمها كان عثمان أحرى أن لا يتم بهم الصلاة لتلك العلة قال الطحاوي وقد قال آخرون‏:‏ إنما إتمام الصلاة لأنه كان يذهب إلى أنه لا يقصرها إلا من حل وارتحل واحتجوا بما رواه عن حماد ابن سلمة عن قتادة قال‏:‏ قال عثمان بن عفان‏:‏ إنما يقصر الصلاة من حمل الزاد والمزاد وحل وارتحل‏.‏

وروى بإسناده المعروف عن سعيد بن أبي عروبة وقد رواه غيره بإسناد صحيح عن عثمان بن سعد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عباس بن عبد الله بن أبي ربيعة أن عثمان بن عفان كتب إلى عماله‏:‏ ألا لا يصلين الركعتين جاب ولا تأن ولا تاجر إنما يصلي الركعتين من كان معه الزاد والمزاد‏.‏

وروي أيضاً من طريق حماد بن سلمة أن أيوب السختياني أخبرهم عن أبي قلابة الجرفي عن عمه أبي المهلب قال‏:‏ كتب عثمان أنه قال بلغني أن قوماً يخرجون إما لتجارة وإما لجباية وإما لجريم ثم يقصرون الصلاة وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصاً أو بحضرة عدو‏.‏

قال ابن حزم‏:‏ وهذان الإسنادان في غاية الصحة‏.‏

قال الطحاوي قالوا وكان مذهب عثمان أن لا يقصر الصلاة إلا من يحتاج إلى حمل الزاد والمزاد ومن كان شاخصاً فأما من كان في مصر يستغني به عن حمل الزاد والمزاد فإنه يتم الصلاة قالوا‏:‏ ولهذا أتم عثمان بمنى لأن أهلها في ذلك الوقت كثروا حتى صارت مصراً يستغني من حل به عن حمل الزاد والمزاد‏.‏

قال الطحاوي‏:‏ وهذا المذهب عندنا فاسد لأن منى لم تصر في زمن عثمان أعمر من مكة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بها ركعتين ثم صلى بها أبو بكر بعده كذلك ثم صلى بها عمر بعد أبي بكر كذلك فإذا كانت مع عدم احتياج من حل بها إلى حمل الزاد والمزاد تقصر فيها الصلاة فما دونها من المواطن أحرى أن يكون كذلك قال‏:‏ فقد انتفت هذه المذاهب كلها لفسادها عن عثمان أن يكون من أجل شيء منها قصر الصلاة غير المذهب الأول الذي حكاه معمر عن الزهري فإنه يحتمل أن يكون من أجلها أتمها وفي الحديث أن إتمامه كان لنيته الإقامة على ما روينا فيه وعلى ما كشفنا من معناه‏.‏

قلت‏:‏ الطحاوي مقصوده أن يجعل ما فعله عثمان موافقاً لأصله وهذا غير ممكن فإن عثمان من المهاجرين والمهاجرون كان يحرم عليهم المقام بمكة ولم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لهم إذا قدموا مكة للعمرة أن يقيموا بها أكثر من ثلاث بعد قضاء العمرة كما قال في الصحيحين عن العلاء بن الحضرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثاً ولهذا لما توفي ابن عمر بها أمر أن يدفن بالحل ولا يدفن بها‏.‏

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد سعد بن أبي وقاص وقد كان مرض في حجة الوداع خاف سعد أن يموت بمكة فقال‏:‏ يا رسول الله أخلف عن هجرتي فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يموت بها‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ إنك لن تموت حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ‏"‏ لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة‏.‏

ومن المعروف عن عثمان أنه كان إذا اعتمر ينيخ راحلته فيعتمر ثم يركب عليها راجعاً فكيف يقال إنه نوى المقام بمكة ثم هذا من الكذب الظاهر فإن عثمان ما أقام بمكة قط بل كان إذا حج يرجع إلى المدينة‏.‏

وقد حمل الشافعي وأصحابه وطائفة من متأخري أصحاب أحمد كالقاضي وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم فعل عثمان على قولهم فقالوا‏:‏ لما كان المسافر مخيراً بين الإتمام والقصر كان كل منهما جائزاً وفعل عثمان هذا لأن القصر جائز والإتمام جائز وكذلك حملوا فعل عائشة واستدلوا بما رووه من جهتها وذكر البيهقي قول من قال أتمها لأجل الأعراب ورواه من سنن أبي داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد عن أيوب عن الزهري أن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب لأنهم كثروا عامين فصلى بالناس أربعاً ليعلمهم أن الصلاة أربع‏.‏

وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا يعقوب عن حميد ثنا سليمان بن سالم مولى عبد الرحمن بن حميد عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن عثمان بن عفان أنه أتم الصلاة بمنى ثم خطب الناس فقال‏:‏ أيها الناس إن السنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة صاحبيه ولكنه حدث العام من الناس فخفت أن تعيبوا قال البيهقي وقد قيل غير هذا والأشبه أن يكون رآه رخصة فرأى الإتمام جائزاً كما رأته عائشة قلت‏:‏ وهذا بعيد فإن عدول عثمان عما داوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفتاه بعده مع أنه أهون عليه وعلى المسلمين ومع ما علم من حلم عثمان واختياره له ولرعيته أسهل الأمور وبعده عن التشديد والتغليظ لا يناسب أن يفعل الأمر الأثقل الأشد مع ترك ما داوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفتاه بعده ومع رغبة عثمان في الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وخليفته بعده لمجرد كون هذا المفضول جائزاً إن لم ير أن في فعل ذلك مصلحة راجحة بعثته على أن يفعله وهب أن له أن يصلي أربعاً فكيف يلزم بذلك من يصلي خلفه فإنهم إذا ائتموا به صلوا بصلاته فيلزم المسلمين بالفعل الأثقل مع خلاف السنة لمجرد كون ذلك جائزاً وكذلك عائشة وقد وافق عثمان على ذلك غيره من السلف أمراؤهم وغير أمرائهم وكانوا يتمون وأئمة الصحابة لا يختارون ذلك كما روى مالك عن الزهري أن رجلاً أخبره عن عبد الرحمن بن المسور مخرمة وعبد الرحمن بن عبد يغوث كانا جميعاً في سفر وكان سعد بن أبي وقاص يقصر الصلاة ويفطر وكانا يتمان الصلاة ويصومان فقيل لسعد نراك تقصر من الصلاة وتفطر ويتمان فقال سعد‏:‏ نحن أعلم وروى شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن المسور قال كنا مع سعد بن أبي وقاص في قرية من قرى الشام فكان يصلي ركعتين فنصلي نحن أربعاً فنسأله عن ذلك فيقول سعد‏:‏ نحن أعلم‏.‏

وروى مالك عن ابن شهاب عن صوان بن عبد الله بن صفوان قال‏:‏ جاء عبد الله بن عمر يعود عبد الله بن صفوان فصلى بنا ركعتين ثم انصرف فأتممنا لأنفسنا قلت‏:‏ عبد الله بن صفوان كان مقيماً بمكة فلهذا أتموا خلف ابن عمر‏.‏

وروى مالك عن نافع أن ابن عمر كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعاً وإذا صلى لنفسه ركعتين قال البيهقي والأشبه أن يكون عثمان رأى القصر رخصة فرأى الإتمام جائزاً كما رأته عائشة قال‏:‏ وقد روي ذلك عن غير واحد من الصحابة مع اختيارهم القصر ثم روى الحديث المعروف من رواية عبد الرزاق عن إسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي ليلى قال أقبل سلمان في إثني عشر راكباً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فحضرت الصلاة فقالوا تقدم يا أبا عبد الله فقال‏:‏ إنا لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم إن الله هدانا بكم قال فتقدم رجل من القوم فصلى بهم أربعاً قال‏:‏ فقال سلمان ما لنا ولا لمربعة إنما كان يكفينا نصف المربعة ونحن إلى الرخصة أحوج قال‏:‏ فبين سلمان بمشهد هؤلاء الصحابة أن القصر رخصة‏.‏

قلت‏:‏ هذه القضية وسلمان قد أنكر التربيع وذلك أنه كان خلاف السنة المعروفة عندهم فإنه لم تكن الأئمة يربعون في السفر وقوله ونحن إلى الرخصة أحوج يبين أنها رخصة وهي رخصة مأمور بها كما أن أكل الميتة في المخمصة رخصة وهي مأمور بها وفطر المريض رخصة وهو مأمور به والصلاة بالتيمم رخصة مأمور بها والطواف بالصفا والمروة قد قال الله فيه‏:‏ ‏"‏ فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ‏"‏ وهو مأمور به إما ركن وإما واجب وإما سنة والذي صلى سلمان أربعاً يحتمل أنه لا يرى القصر لمثله إما لأن سفره كان قصراً عنده وإما لأن سفره لم يكن عنده مما يقصر فيه الصلاة فإن من الصحابة من لا يرى القصر إلا في حج أو عمرة أو غزو وكان لكثير من السلف والخلف نزاع في جنس سفر القصر وفي قدره فهذه القضية المعينة لم يتبين فيها حال الإمام ومتابعة سلمان له تدل على أن الإمام إذا فعل شيئاً متأولاً اتبع عليه كما إذا قنت متأولاً أو كبر خمساً أو سبعاً متأولاً والنبي صلى الله عليه وسلم صلى خمساً واتبعه أصحابه ظانين أن الصلاة زيد فيها فلما سلم ذكروا ذلك فقال‏:‏ ‏"‏ إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإن نسيت ذكروني ‏"‏ وقد تنازع العلماء في الإمام إذا قام إلى خامسة هل يتابعه المأموم أو يفارقه ويسلم أو يفارقه وينتظره أو يخير بين هذا وهذا على أقوال معروفة وهي روايات عن أحمد أو رأى أن التربيع مكروه وتابع الإمام عليه فإن المتابعة واجبة ويجوز فعل المكروه لمصلحة راجحة ولا ريب أن تربيع المسافر ليس كصلاة الفجر أربعاً فإن المسافر لو اقتدى بمقيم لصلى خلفه أربعاً لأجل متابعة إمامه فهذه الصلاة تفعل في حال ركعتين وفي حال أربعاً بخلاف الفجر فجاز أن تكون متابعة الإمام المسافر كمتابعة المسافر للمقيم لأن كلاهما اتبع إمامه وهذا القول وهو القول بكراهة التربيع أعدل الأقوال وهو الذي نص عليه أحمد في رواية الأثرم وقد سأله هل للمسافر أن يصلي أربعاً فقال‏:‏ لا يعجبني ولكن السفر ركعتان وقد نقل عنه المروذي أنه قال‏:‏ إن شاء صلى أربعاً وإن شاء صلى ركعتين‏.‏

ولا يختلف قول أحمد أن الأفضل هو القصر بل نقل عنه إذا صلى أربعاً أنه توقف في الأجزاء ومذهب مالك كراهية التربيع وأنه يعيد في الوقت ولهذا يذكر في مذهبه هل تصح الصلاة أربعاً على قولين‏.‏

ومذهب الشافعي جواز الأمرين وأيهما أفضل فيه قولان‏:‏ أصحهما أن القصر أفضل كإحدى الروايتين عن أحمد وهو اختيار كثير من أصحابه وتوقف أحمد عن القول بالأجزاء يقتضي أنه يخرج على قوله في مذهبه وذلك أن غايته أنه زاد زيادة مكروهة وهذا لا يبطل الصلاة فإنه أتى بالواجب وزيادة والزيادة إذا كانت سهواً لا تبطل الصلاة باتفاق المسلمين وكذلك الزيادة خطأ إذا اعتقد جوازها وهذه الزيادة لا يفعلها من يعتقد تحريمها وإنما يفعلها من يعتقدها جائزة ولا نص بتحريمها بل الأدلة دالة على كون ذلك مخالفاً للسنة لا أنه محرم كالصلاة بدون رفع اليدين
مذهب عثمان رضي الله عنه في قصر الصلاة

وأما إتمام عثمان فالذي ينبغي أن يحمل حاله على ما كان يقول لا على ما لم يثبت فقوله أنه بلغني أن قوماً يخرجون إما لتجارة وإما لجباية وإما لجريم يقصرون الصلاة وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصاً أو بحضرة عدو وقوله بين فيه مذهبه وهو أنه لا يقصر الصلاة من كان نازلاً في قرية أو مصر إلا إذا كان خائفاً بحضرة عدو وإنما يقصر من كان شاخصاً أي مسافراً وهو الحامل للزاد والمزاد أي للطعام والشراب والمزاد وعاء الماء يقول إذا كان نازلاً مكاناً فيه الطعام والشراب كان مترفهاً بمنزلة المقيم فلا يقصر لأن القصر إنما جعل للمشقة التي تلحق الإنسان وهذا لا تلحقه مشقة فالقصر عنده للمسافر الذي يحمل الزاد والمزاد وللخائف ولما عمرت منى وصار بها زاد ومزاد لم ير القصر بها لا لنفسه ولا لمن معه من الحجاج وقوله في تلك الرواية‏:‏ ولكن حدث العام لم يذكر فيها ما حدث فقد يكون هذا هو الحادث وإن كان قد جاءت الجهال من الأعراب وغيرهم يظنون أن الصلاة أربع فقد خاف عليهم أن يظنوا أنها تفعل في مكان فيه الزاد والمزاد أربعاً وهذا عنده لا يجوز وإن كان قد تأهل بمكة فيكون هذا أيضاً موافقاً فإنه إنما تأهل بمكان فيه الزاد والمزاد وهو لا يرى القصر لمن كان نازلاً بأهله في مكان فيه الزاد والمزاد وعلى هذا فجميع ما ثبت في هذا الباب من عذره يصدق بعضه بعضاً‏.‏

وأما ما اعتذر به الطحاوي من أن مكة كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أعمر من منى في زمن عثمان فجواب عثمان له أن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية ثم في غزوة الفتح ثم في عمرة الجعرانة كان خائفاً من العدو وعثمان يجوز القصر لمن كان خائفاً وإن كان نازلاً في مكان فيه الزاد والمزاد فإنه يجوزه للمسافر ولمن كان بحضرة العدو وإما حجة الوداع فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم آمناً لكنه لم يكن نازلاً بمكة وإنما كان نازلاً بالأبطح خارج مكة هو وأصحابه فلم يكونوا نازلين بدار إقامة ولا بمكان فيه الزاد والمزاد‏.‏

وقد قال أسامة‏:‏ أين ننزل غداً هل ننزل بدارك بمكة فقال‏:‏ ‏"‏ وهل ترك لنا عقيل من دار ننزل بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر وهذا المنزل بالأبطح بين المقابر ومنى‏.‏

وكذلك عائشة رضي الله عنها أخبرت عن نفسها أنها إنما تتم لأن القصر لأجل المشقة وأن الإتمام لا يشق عليها والسلف والخلف تنازعوا في سفر القصر في جنسه وفي قدره فكان قول عثمان وعائشة أحد أقوالهم فيها وللناس في جنس سفر القصر أقوال أخر مع أن عثمان قد خالفه علي وابن مسعود وعرمان بن الحصين وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس وغيرهم من علماء الصحابة فروى سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال‏:‏ اعتل عثمان وهو بمنى فأتى علي فقيل له‏:‏ صل بالناس فقال‏:‏ إن شئتم صليت بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قاولوا‏:‏ لا إلا صلاة أمير المؤمنين يعنون أربعاً فأبى‏.‏

وفي الصحيحين عن ابن مسعود‏.‏

الخلاف في جواز إتمام الرباعية في السفر وقد تنازع الناس في الأربع في السفر على أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أن ذلك بمنزلة صلاة الصبح أربعاً وهذا مذهب طائفة من السلف والخلف وهو مذهب أبي حنيفة وابن حزم وغيره من أهل الظاهر ثم عند أبي حنيفة إذا جلس مقدار التشهد تمت صلاته والمفعول بعد ذلك كصلاة منفصلة قد تطوع بها وإن لم يقعد مقدار التشهد بطلت صلاته ومذهب ابن حزم وغيره أن صلاته باطلة كما لو صلى عندهم الفجر أربعاً‏.‏

وقد روى سعيد في سننه عن الضحاك بن مزاحم قال‏:‏ قال ابن عباس من صلى في السفر أربعاً كمن صلى في الحضر ركعتين‏.‏

قال ابن حزم وروينا عن عمر بن عبد العزيز وقد ذكر الإتمام في السفر لمن شاء فقال‏:‏ لا الصلاة في السفر ركعتان حتمان لا يصح غيرهما وحجة هؤلاء أنه قد ثبت أن الله إنما فرض في السفر ركعتين والزيادة على ذلك لم يأت بها كتاب ولا سنة وكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وأما فعل عثمان وعائشة فتأويل منهما أن القصر إنما يكون في بعض الأسفار دون بعض كما تأول غيرهما أنه لا يكون إلا في حج أو عمرة أو جهاد ثم قد خالفهما أئمة الصحابة وأنكروا ذلك‏.‏

قالوا‏:‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ‏"‏ فأمر بقبولها والأمر يقتضي الوجوب ومن قال يجوز الأمران فعمدتهم قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ‏"‏ قالوا‏:‏ وهذه العبارة إنما تستعمل في المباح لا في الواجب كقوله‏:‏ ‏"‏ ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ‏"‏ ونحو ذلك واحتجوا من السنة بما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم حسن لعائشة إتمامها وبما روي من أنه فعل ذلك واحتجوا بأن عثمان أتم الصلاة بمنى بمحضر الصحابة فأتموا خلفه وهذه كلها حجج ضعيفة‏.‏

أما الآية فنقول قد علم بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلي في السفر ركعتين وكذلك أبو بكر وعمر بعده وهذا يدل على أن الركعتين أفضل كما عليه جماهير العلماء وإذا كان القصر طاعة لله ورسوله وهو أفضل من غيره لم يجز أن يحتج بنفي الجناح على أنه مباح لا فضيلة فيه ثم ما كان عذرهم عن كونه مستحباً هو عذر لغيرهم عن كونه مأموراً به أمر إيجاب وقد قال تعالى في السعي‏:‏ ‏"‏ فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ‏"‏ والطواف بين الصفا والمروة هو السعي المشروع باتفاق المسلمين وذلك إما ركن وإما واجب وإما سنة وأيضاً فالقصر وإن كان رخصة استباحة المحظور فقد تكون واجبة كأكل الميت للمضطر والتيمم لمن عدم الماء ونحو ذلك هذا إن سلم أن المراد به قصر العدد فإن للناس في الآية ثلاثة أقوال‏:‏ قيل المراد به قصر العدد فقط وعلى هذا فيكون التخصيص بالخوف غير مفيد والثاني أن المراد به قصر الأعمال فإن صلاة الخوف تقصر عن صلاة الأمن والخوف يبيح ذلك وهذا يرد عليه أن صلاة الخوف جائزة حضراً وسفراً والآية أفادت القصر في السفر‏.‏

والقول الثالث وهو الأصح أن الآية أفادت قصر العدد وقصر العمل جميعاً ولهذا علق ذلك بالسفر والخوف فإذا اجتمع الضرب في الأرض والخوف أبيح القصر الجامع لهذا ولهذا وإذا انفرد السفر فإنما يبيح قصر العدد وإذا انفرد الخوف فإنما يفيد قصر العمل‏.‏

ومن قال إن الفرض في الخوف والسفر ركعة كأحد القولين في مذهب أحمد وهو مذهب ابن حزم فمراده إذا كان خوف وسفر فيكون السفر والخوف قد أفادا القصر إلى ركعة كما روى أبو داود الطيالسي ثنا المسعودي هو عبد الرحمن هو عبد الرحمن بن عبد الله عن يزيد الفقير قال‏:‏ سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر أقصرهما قال جابر‏:‏ لا فإن الركعتين في السفر وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال‏:‏ فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة‏.‏

قال ابن حزم‏:‏ ورويناه أيضاً من طريق حذيفة وجابر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد في غاية الصحة‏.‏

قال ابن حزم‏:‏ وبهذه الآية قلنا إن صلاة الخوف في السفر إن شاء ركعة وإن شاء ركعتين لأنه جاء في القرآن بلفظ ‏"‏ لا جناح ‏"‏ لا بلفظ الأمر والإيجاب وصلاها الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم مرة ركعة فقط ومرة ركعتين فكان ذلك على الاختيار كما قال جابر‏.‏

وأما صلاة عثمان فقد عرف إنكار أئمة الصحابة عليه ومع هذا فكانوا يصلون خلفه بل كان ابن مسعود يصلي أربعاً وإن انفرد ويقول‏:‏ الخلاف شر وكان ابن عمر إذا انفر صلى ركعتين‏.‏

وهذا دليل على أن صلاة السفر أربعاً مكروهة عندهم ومخالفة للسنة ومع ذلك فلا إعادة على من فعلها وإذا فعلها الإمام اتبع فيها وهذا لأن صلاة المسافر ليست كصلاة الفجر بل هي من جنس الجمعة والعيدين ولهذا قرن عمر بن الخطاب في السنة التي نقلها بين الأربع فقال‏:‏ صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى‏.‏

رواه أحمد والنسائي من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال‏:‏ قال عمر ورواه يزيد بن زياد ابن أبي الجعد عن زبيد ومعلوم أنه يوم الجمعة يصلى ركعتين تارة ويصلي أربعاً أخرى ومن فاتته الجمعة إنما يصلي أربعاً لا يصلي ركعتين وكذلك من لم يدرك منها ركعة عند الصحابة وجمهور العلماء كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها ‏"‏ وإذا حصلت شروط الجمعة خطب خطبتين وصلى ركعتين فلو قدر أنه خطب وصلى الظهر أربعاً لكان تاركاً للسنة ومع هذا فليسوا كمن صلى الفجر أربعاً ولهذا يجوز للمريض والمسافر والمرأة وغيرهم ممن لا تجب عليهم الجمعة أن يصلي الظهر أربعاً أن يأتم به في الجمعة فيصلي ركعتين فكذلك المسافر له أن يصلي ركعتين وله أن يأتم بمقيم فيصلي خلفه أربعاً فإن قيل الجمعة يشترط لها الجماعة فلهذا كان حكم المنفرد فيها خلاف حكم المؤتم‏.‏

وهذا الفرق ذكره أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد قيل لهم اشتراط الجماعة في الصلوات الخمس فيه نزاع في مذهب أحمد وغيره والأقوى أنه شرط مع القدرة وحينئذ المسافر لما ائتم بالمقيم دخل في الجماعة الواجبة فلزمه إتباع الإمام كما في الجمعة وإن قيل فللمسافرين أن يصلوا جماعة قيل ولهم أن يصلوا يوم الجمعة جماعة ويصلوا أربعاً وصلاة العيد قد ثبت عن علي أنه استخلف من صلى بالناس في المسجد أربعاً ركعتين للسنة وركعتين لكونهم لم يخرجوا إلى الصحراء فصلاة الظهر يوم الجمعة وصلاة العيدين تفعل تارة ثنتين وتارة أربعاً كصلاة المسافر بخلاف صلاة الفجر وعلى هذا تدل آثار الصحابة فإنهم كانوا يكرهون من الإمام أن يصلي أربعاً ويصلون خلفه كما في حديث سلمان وحديث ابن مسعود وغيره مع عثمان ولو كان ذلك عندهم كمن يصلي الفجر أربعاً لما استجازوا أن يصلوا أربعاً كما لا يستجيز مسلم أن يصلي الفجر أربعاً‏.‏

ومن قال إنهم لما قعدوا قدر التشهد أدوا الفرض والباقي تطوع قيل له‏:‏ من المعلوم أنه لم ينقل عن أحدهم أنه قال‏:‏ نوينا التطوع بالركعتين‏.‏

وأيضاً فإن ذلك ليس بمشروع فليس لأحد أن يصلي بعد الفجر ركعتين بل قد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من صلى بعد الإقامة السنة وقال الصبح أربعاً‏.‏

وقد صلى الإمام فكيف إذا وصل الصلاة بصلاة وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يفصل بينهما بكلام أو قيام‏.‏

وقد كان الصحابة ينكرون على من يصلي الجمعة وغيرها بصلاة تطوع فكيف يسوغون أن يصلي الركعتين في السفر إن كان لا يجوز إلا ركعتان بصلاة تطوع وأيضاً فلماذا وجب على المقيم خلف المسافر أن يصلي أربعاً كما ثبت ذلك عن الصحابة وقد وافق عليه أبو حنيفة وأيضاً فيجوز أن يصلي المقيم أربعاً خلف المسافر ركعتين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما يبين أن صلاة المسافر من جنس صلاة المقيم فإنه قد سلم جماهير العلماء أن يصلي هذا خلف هذا كما يصلي الظهر خلف من يصلي الجمعة وليس هذا كمن صلى الظهر قضاء خلف من يصلي الفجر‏.‏

وأما من قال أن المسافر فرضه أربع وله أن يسقط ركعتين بالقصر فقوله مخالف للنصوص وإجماع السلف والأصول وهو قول متناقض فإن هاتين الركعتين يملك المسافر إسقاطهما لا إلى بدل ولا إلى نظيره وهذا يناقض الوجوب فإنه يمتنع أن يكون الشيء واجباً على العبد ومع هذا لا يلزمه فعله ولا فعل بدله ولا نظيره - فعلم بذلك أن الفرض على المسافر الركعتان فقط الذي يدل عليه كلام أحمد وقدماء الصحابة فإنه لم يشترط في القصر نية وقال‏:‏ لا يعجبني الأربع وتوقف في إجزاء الأربع‏.‏

ولم ينقل أحد عن أحمد أنه قال لا يقصر إلا بنية وإنما هذا من قول الخرقي ومن اتبعه ونصوص أحمد وأجوبته كلها مطلقة في ذلك كما قاله جماهير العلماء وهو اختيار أبي بكر موافقة لقدماء الأصحاب كالخلال وغيره بل والأثرم وأبي داود وإبراهيم الحربي وغيرهم فإنهم لم يشترطوا النية لا في قصر ولا في جمع وإذا كان فرضه ركعتين فإذا أتى بهما أجزأه ذلك سواء نوى القصر أو لم ينوه وهذا قول الجماهير كمالك وأبي حنيفة وعامة السلف وما علمت أحداً من الصحابة والتابعين لهم بإحسان اشترط نية لا في قصر ولا في جمع ولو نوى المسافر الإتمام كانت السنة في حقه الركعتين ولو صلى أربعاً كان ذلك مكروهاً كما لو ينوه‏.‏

ولم ينقل قط أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه لا بنية القصر ولا نية جمع ولا كان خلفاؤه وأصحابه يأمرون بذلك من يصلي خلفهم مع أن المأمومين أو أكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في حجته صلى بهم الظهر بالمدينة أربعاً وصلى بهم العصر بذي الحليفة ركعتين وخلفه أمم لا يحصي عددهم إلا الله كلهم خرجوا يحجون معه وكثير منهم لا يعرف صلاة السفر إما لحدوث عهده بالإسلام وإما لكونه لم يسافر بعد لا سيما النساء صلوا معه ولم يأمرهم بنية القصر وكذلك جمع بهم بعرفة ولم يقل لهم إني أريد أن أصلي العصر بعد الظهر حتى صلاها‏.‏
فصل الخلاف في السفر الشرعي وحكمه

الخلاف في السفر الشرعي وحكمه‏:‏ السفر في كتاب الله وسنة رسوله في القصر والفطر مطلق ثم قد تنازع الناس في جنس السفر وقدره أما جنسه فاختلفوا في نوعين‏:‏ أحدهما حكمه فمنهم من قال لا نقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو وهذا قول داود وأصحابه إلا ابن حزم قال ابن حزم وهو قول جماعة من السلف كما روينا من طريق ابن أبي عدي حدثنا جرير عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن الأسود عن ابن مسعود قال‏:‏ لا يقصر الصلاة إلا حاج أو مجاهد‏.‏

وعن طاوس أنه كان يسأل عن قصر الصلاة فيقول إذا خرجنا حجاجاً أو عماراً صلينا ركعتين‏.‏

وعن إبراهيم التيمي أنه كان لا يرى القصر إلا في حج أو عمرة أو جهاد وحجة هؤلاء أنه ليس معنا نص يوجب عموم القصر للمسافر إذا خاف أن يفتنه الذين كفروا وهذا سفر الجهاد وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في حجه وعمره وغزواته فثبت جواز هذا والأصل في الصلاة الإتمام فلا تسقط إلا حيث أسقطتها السنة‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ لا يقصر إلا في سفر يكون طاعة فلا يقصر في مباح كسفر التجارة وهذا يذكر رواية عن أحمد والجمهور يجوزون القصر في السفر الذي يجوز فيه الفطر وهو الصواب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ‏"‏ رواه عنه أنس بن مالك الكعبي وقد رواه أحمد وغيره بإسناد جيد وأيضا فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب ‏"‏ ليس عليكم جناح أن تقصورا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ‏"‏ فقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال‏:‏ ‏"‏ صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ‏"‏ وهذا يبين أن سفر الأمن يجوز فيه قصر العدد وإن كان ذلك صدقة من الله علينا أمرنا بقبولها‏.‏

وقد قال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد‏:‏ إن شئنا قبلناها وإن شئنا لم نقبلها فإن قبول الصدقة لا يجب ليدفعوا بذلك الأمر بالركعتين وهذا غلط فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقبل صدقة الله علينا والأمر للإيجاب وكل إحسانه إلينا صدقة علينا فإن لم نقبل ذلك هلكنا وأيضاً فقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى كما قال‏:‏ صلاة الجمعة ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وهذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن للمسلمين الصلاة في جنس السفر ركعتين كما سن الجمعة والعيدين ولم يخص ذلك بسفر نسك أو جهاد وأيضاً فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت‏:‏ فرضت الصلاة ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر وهذا يبين أن المسافر لم يؤمر بأربع قط وحينئذ فما أوجب الله على المسافر أن يصلي أربعاً وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله لفظ يدل على أن المسافر فرض عليه أربع وحينئذ فمن أوجب على مسافر أربعاً فقد أوجب ما لم يوجبه الله ورسوله‏.‏

فإن قيل قوله وضع يقتضي أنه كان واجباً قبل هذا كما قال أنه وضع عنه الصوم ومعلوم أنه لم يجب على المسافر صوم رمضان قط لكن لما انعقد سبب الوجوب فأخرج المسافر من ذلك سمي وضعاً ولأنه كان واجباً في المقام فلما سافر وضع بالسفر كما يقال‏:‏ من أسلم وضعت عنه الجزية مع أنها لا تجب على مسلم بحال وأيضاً فقد قال صفوان بن محرز‏:‏ قلت لابن عمر‏:‏ حدثني عن صلاة السفر قال‏:‏ أتخشى أن يكذب علي قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ركعتان من خالف السنة كفر وهذا معروف رواه أبو التياح عن مورق العجل عنه وهو مشهور في كتب الآثار وفي لفظ صلاة السفر ركعتان ومن خالف السنة كفر وبعضهم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبين أن صلاة السفر ركعتان وأن ذلك من السنة التي خالفها فاعتقد خلافها فقد كفر وهذه الأدلة دليل على أن من قال إنه لا يقصر إلا في سفر واجب فقوله ضعيف ومنهم من قال لا يقصر في السفر المكروه ولا المحرم ويقصر في المباح وهذا أيضاً رواية عن أحمد وهل يقصر في سفر النزهة فيه عن أحمد راويتان‏:‏ وأما السفر المحرم فمذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد لا يقصر فيه وأما أبو حنيفة وطوائف من السلف والخلف فقالوا‏:‏ يقصر في جنس الأسفار وهو قول ابن حزم وغيره وأبو حنيفة وابن حزم وغيرهما يوجبون القصر في كل سفر وإن كان محرماً كما يوجب الجميع التيمم إذا عدم الماء في السفر المحرم وابن عقيل رجح في بعض المواضع القصر والفطر في السفر المحرم‏.‏

والحجة مع من جعل القصر والفطر مشروعاً في جنس السفر ولم يخص سفراً من سفر وهذا القول هو الصحيح فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر قال تعالى‏:‏ ‏"‏ فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ‏"‏ كما قال في آية التيمم‏:‏ ‏"‏ وإن كنتم مرضى أو على سفر ‏"‏ الآية وكما تقدمت النصوص الدالة على أن المسافر يصلي ركعتين ولم ينقل قط أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خص سفراً من سفر مع علمه بأن السفر يكون حراماً ومباحاً ولو كان هذا مما يختص بنوع من السفر لكان بيان هذا من الواجبات ولو بين ذلك لنقلته الأمة وما علمت عن الصحابة في ذلك شيئاً وقد علق الله ورسوله أحكاماً بالسفر كقوله تعالى في التيمم‏:‏ ‏"‏ وإن كنتم مرضى أو على سفر ‏"‏ وقوله في الصوم‏:‏ ‏"‏ فمن كان منكم مريضاً أو على سفر ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ‏"‏‏.‏

وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ‏"‏ ولم يذكر قط في شيء من نصوص الكتاب والسنة تقييد السفر بنوع دون نوع فكيف يجوز أن يكون الحكم معلقاً بأحد نوعي السفر ولا يبين الله ورسوله ذلك بل يكون بيان الله ورسوله متناولاً للنوعين وهكذا في تقسيم السفر إلى طويل وقصير وتقسيم الطلاق بعد الدخول إلى بائن ورجعي وتقسيم الإيمان إلى يمين مكفرة وغير مكفرة وأمثال ذلك مما علق الله ورسوله الحكم فيه بالجنس المشترك العام فجعله بعض الناس نوعين نوعاً يتعلق به ذلك الحكم ونوعاً لا يتعلق من غير دلالة على ذلك من كتاب ولا سنة ولا نصاً ولا استنباطاً‏.‏

والذين قالوا‏:‏ لا يثبت ذلك في السفر المحرم عمدتهم قوله تعالى في الميتة‏:‏ ‏"‏ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ‏"‏ وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن الباغي هو الباغي على الإمام الذي يجوز قتاله والعادي هو العادي على المسلمين وهم المحاربون قطاع الطريق قالوا‏:‏ فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم فسائر الرخص أولى وقالوا‏:‏ إذا اضطر العاصي بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل ولا نبيح له إتلاف نفسه وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعي وأحمد وأما أحمد ومالك فجوزوا له أكل الميتة دون القصر والفطر قالوا‏:‏ ولأن السفر المحرم معصية والرخص للمسافر إعانة على ذلك فلا تجوز الإعانة على المعصية‏.‏

وهذه حجج ضعيفة أما الآية فأكثر المفسرين قالوا المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه وهذا التفسير هو الصواب دون الأول لأن الله أنزل هذا في السور المكية الأنعام والنحل وفي المدنية ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل والضرورة لا تختص بسفر ولو كانت في سفر فليس السفر المحرم مختصاً يقطع الطريق والخروج على الإمام ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إمام يخرج عليه ولا من شرط الخارج أن يكون مسافراً والبغاة الذين أمر الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولاً مسافرين بل كانوا من أهل العوالي مقيمين واقتتلوا بالنعال والجريد فكيف يجوز أن يفسر الآية بما لا تختص بالسفر وليس فيها كل سفر محرم فالمذكور في الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقاً للسفر المحرم فإنه قد يكون بلا سفر وقد يكون السفر المحرم بدونه وأيضاً فقوله‏:‏ ‏"‏ غير باغ ‏"‏ حال من ‏"‏ اضطر ‏"‏ فيجب أن يكون حال اضطراره وأكله الذي يأكل فيه غير باغ ولا عاد فإنه قال‏:‏ ‏"‏ فلا إثم عليه ‏"‏ ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل الذي هو الفعل لا عن نفس الحاجة إليه فمعنى الآية فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد وهذا يبين أن المقصود أنه لا يبغي في أكله ولا يتعدى والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان فالبغي ما جنسه ظلم والعدوان مجاوزة القدر المباح كما قرن بين الإثم والعداون في قوله‏:‏ ‏"‏ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ‏"‏ فالإثم جنس الشر والعدوان مجاوزة القدر المباح فالبغي من جنس الإثم قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة بغياً بينهم ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه ‏"‏ فالإثم جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد وأما الجنف فهو الجنف عليهم بعمد وبغير عمد لكن قال كثير من المفسرين الجنف الخطأ والإثم لأنه لما خص الإثم بالذكر وهو العمد بقي الداخل في الجنف خطأ ولفظ العدوان من باب تعدي الحدود كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ‏"‏ ونحو ذلك ومما يشبه هذا قوله‏:‏ ‏"‏ ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ‏"‏ والإسراف مجاوزة الحد في المباح وأما الذنوب فما كان جنسه شر إثم وأما قولهم إن هذا إعانة على المعصية فغلط لأن المسافر مأمور بأن يصلي ركعتين كما هو مأمور أن يصلي بالتيمم وإذا عدم الماء في السفر المحرم كان عليه أن يتيمم ويصلي وما زاد على الركعتين ليست طاعة ولا مأموراً بها أحد من المسافرين وإذا فعلها المسافر كان قد فعل منهياً عنه فصار صلاة الركعتين مثل أن يصلي المسافر الجمعة خلف مستوطن فهل يصليها إلا ركعتين وإن كان عاصياً بسفره وإن كان إذا صلى وحده صلى أربعاً وكذلك صومه في السفر ليس براً ولا مأموراً به فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏ ليس من البر الصيام في السفر ‏"‏ وصومه إذا كان مقيماً أحب إلى الله من صيامه في سفر محرم ولو أراد أن يتطوع على الراحلة في السفر المحرم لم يمنع من ذلك وإذا اشتبهت عليه القبلة أما كان يتحرى ويصلي ولو أخذت ثيابه أما كان يصلي عرياناً فإن قيل هذا لا يمكنه إلا هذا قيل والمسافر لم يؤمر إلا بركعتين والمشروع في حقه أن لا يصوم وقد اختلف الناس لو صام هل يسقط الفرض عنه واتفقوا على أنه إذا صام بعد رمضان أجزأه وهذه المسألة ليس فيها احتياط فإن طائفة يقولون من صلى أربعاً أو صام رمضان في السفر المحرم لم يجزئه ذلك كما لو فعل ذلك في السفر المباح عندهم‏.‏

وطائفة يقولون لا يجزيه إلا صلاة أربع وصوم رمضان وكذلك أكل الميتة واجب على المضطر سواء كان في السفر أو الحضر وسواء كانت ضرورية بسبب مباح أو محرم فلو ألقي ماله في البحر واضطر إلى أكل الميتة كان عليه أن يأكلها ولو سافر سفراً محرماً فأتعبه حتى عجز عن القيام صلى قاعداً ولو قاتل قتالاً محرماً حتى أعجزته الجراح عن القيام صلى قاعداً فإن قيل فلو قاتل قتالاً محرماً هل يصلي صلاة الخوف قيل يجب عليه أن يصلي ولا يقاتل فإن كان لا يدع القتال المحرم فلا نبيح له ترك الصلاة بل إذا صلى صلاة خائف كان خيراً من ترك الصلاة بالكلية ثم هل يعيد هذا فيه نزاع ثم إن أمكن فعلها بدون هذه الأفعال المبطلة في الوقت وجب ذلك عليه لأنه مأمور بها وأما إن خرج ولم يفعل ذلك ففي صحتها وقبولها بعد ذلك نزاع‏.‏

النوع الثاني‏:‏ من موارد النزاع أن عثمان كان لا يرى مسافراً إلا من حمل الزاد والمزاد دون من كان نازلاً لا يحتاج فيه إلى ذلك كالتاجر والتاني والجابي الذين يكونون في موضع لا يحتاجون فيه إلى ذلك ولم يقدر عثمان للسفر قدراً بل هذا الجنس عنده ليس بمسافر وكذلك قيل إنه لم ير نفسه والذين معه مسافرين بمنى لما صارت منى معمورة وذكر ابن أبي شبيبة عن ابن سيرين أنه قال‏:‏ كانوا يقولون السفر الذي تقصر فيه الصلاة الذي يحمل فيه الزاد والمزاد ومأخذ هذا القول والله أعلم أن القصر إنما كان في السفر لا في المقام والرجل إذا كان مقيماً في مكان يجد فيه الطعام والشراب لم يكن مسافراً بل مقيماً بخلاف المسافر الذي يحتاج أن يحمل الطعام والشراب فإن هذا يلحقه من المشقة ما يلحق المسافر من مشقة السفر وصاحب هذا القول كأنه رأى الرخصة إنما تكون للمشقة والمشقة إنما تكون لمن يحتاج إلى حمل الطعام والشراب وقد نقل عن غيره كلام يفرق فيه بين جنس وجنس‏.‏

روى ابن أبي شيبة عن علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق ابن شهاب عن عبد الله ابن مسعود قال‏:‏ لا يغرنكم سوادكم هذا من صلاتكم فإنه من مصركم فقوله من مصركم يدل على أنه جعل السواد بمنزلة المصر لما كان تابعاً وروى عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال‏:‏ كنت مع حذيفة بالمدائن فاستأذنته أن آتي أهلي بالكوفة فأذن لي وشرط علي أن لا أفطر ولا أصلي ركعتين حتى أرجع إليه وبينهما نيف وستون ميلاً‏.‏

وعن حذيفة أن لا يقصر إلى السواد وبين الكوفة‏.‏

والسواد تسعون ميلاً‏.‏

وعن معاذ بن جبل وعقبة بن عامر‏:‏ لا يطأ أحدكم بماشية أحداب الجبال أو بطون الأودية وتزعمون أنكم سفر لا ولا كرامة إنما التقصير في السفر من الباءت من الأفق إلى الأفق‏.‏

قلت‏:‏ هؤلاء لم يذكروا مسافة محدودة للقصر لا بالزمان ولا بالمكان لكان جعلوا هذا الجنس من السير ليس سفراً كما جعل عثمان السفر ما كان فيه حمل زاد ومزاد فإن كانوا قصدوا ما قصده عثمان من أن هذا لا يزال يسير في مكان يحمل فيه الزاد والمزاد فهو كالمقيم فقد وافقوا عثمان لكن ابن مسعود خالف عثمان في إتمامه بمنى وإن كان قصدهم أن أعمال البلد تبع له كالسواد مع الكوفة وإنما المسافر من خرج من عمل إلى عمل كما في حديث معاذ من أفق إلى أفق فهذا هو الظاهر ولهذا قال ابن مسعود عن السواد‏:‏ فإنه من مصركم وهذا كما أن ما حول المصر من البساتين والمزارع تابعة له فهم يجعلون ذلك كذلك وإن طال ولا يجدون فيه مسافة وهذا كما أن المخاليف وهي الأمكنة التي يستخلف فيها من هو خليفة عن الأمير العام بالمصر الكبير وفي حديث معاذ من خرج من مخلاف إلى مخلاف يدل على ذلك ما رواه محمد بن بشار‏:‏ حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا شعبة سمعت قيس بن عمران بن عمير يحدث عن أبيه عن جده أنه خرج مع عبد الله بن مسعود وهو رديفه على بغلة له مسيرة أربعة فراسخ فصلى الظهر ركعتين قال شعبة‏:‏ أخبرني بهذا قيس بن عمران وأبوه عمران بن عمير شاهدوا عمير مولى ابن مسعود فهذا يدل على أن ابن مسعود لم يحد السفر بمسافة طويلة ولكن اعتبر أمراً آخر كالأعمال وهذا أمر لا يحد بمسافة ولا زمان لكن بعموم الولايات وخصوصها مثل من كان بدمشق فإذا سافر إلى ما هو خارج عن أعمالها كان مسافراً‏.‏

وأصحاب هذه الأقوال كأنهم رأوا ما رخص فيه للمسافر إنما رخص فيه للمشقة التي تلحقه في السفر واحتياجه إلى الرخصة وعلموا أن المنتقل في المصر الواحد من مكان إلى مكان ليس بمسافر وكذلك الخارج إلى ما حول المصر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى قبا كل سبت راكباً وماشياً ولم يكن يقصر وكذلك المسلمون كانوا يتناوبون الجمعة من العوالي ولم يكونوا يقصرون فكان المنتقل في العمل الواحد بهذه المثابة عندهم‏.‏

وهؤلاء يحتج عليهم بقصر أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة ومنى مع أن هذه تابعة لمكة ومضافة إليها وهي أكثر تبعاً لها من السواد للكوفة وأقرب إليها منها فإن بين باب شيبة وموقف الإمام بعرفة عند الصخرات التي في أسفل جبل الرحمة بريد بهذه المسافة وهذا السير وهم مسافرون وإذا قيل المكان الذي يسافرون إليه ليس بموضع مقام قيل بل كان هناك قرية نمرة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يزل بها وكان بها أسواق وقريب منها عرنة التي تصل واديها بعرفة لأنه لا فرق بين السفر إلى بلد تقام فيه وبلد لا تقام فيه إذا لم يقصد الإقامة فإن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين سافروا إلى مكة وهي بلد يمكن الإقامة فيه وما زالوا مسافرين في غزوهم وحجهم وعمرتهم وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في جوف مكة عام الفتح وقال‏:‏ ‏"‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ‏"‏ وكذلك عمر بعده فعل ذلك رواه مالك بإسناد صحيح ولم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر بمنى ومن نقل ذلك عنهم فقد غلط وهذا بخلاف خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبا كل سبت راكباً وماشياً وخروجه إلى الصلاة على الشهداء فإنه قبل أن يموت بقليل صلى عليهم وبخلاف ذهابه إلى البقيع وبخلاف قصد أهل العوالي المدينة ليجمعوا بها فإن هذا كله ليس بسفر فإن اسم المدينة متناول لهذا كله وإنما الناس قسمان الأعراب وأهل المدينة ولأن الواحد منهم يذهب ويرجع إلى أهله في يومه من غير أن يتأهب لذلك أهبة السفر فلا يحمل زاداً ولا مزاداً لا في طريقه ولا في المنزل الذي يصل إليه ولهذا لا يسمى من ذهب إلى ربض مدينته مسافراً ولهذا تجب الجمعة على من حول المصر عند أكثر العلماء وهو يقدر بسماع النداء وبفرسخ ولو كان ذلك سفراً لم تجب الجمعة على من ينشئ لها سفراً فإن الجمعة لا تجب فكيف يجب أن يسافر لها وعلى هذا فالمسافر لم يكن مسافراً لقطعه مسافة محدودة ولا لقطعه أياماً محدودة بل كان مسافراً لجنس العمل الذي هو سفر وقد يكون مسافراً من مسافة قريبة ولا يكون مسافراً من أبعد منها مثل أن يركب فرساً سابقاً ويسير بريد ثم يرجع من ساعة إلى بلده فهذا ليس مسافراً وإن قطع هذه المسافة في يوم وليلة ويحتاج في ذلك إلى حمل زاد ومزاد فكان مسافراً كما كان سفر أهل مكة إلى عرفة ولو ركب رجل فرساً سابقاً إلى عرفة ثم رجع من يومه إلى مكة لم يكن مسافراً يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال‏:‏ ‏"‏ يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن - والمقيم يوماً وليلة ‏"‏ فلو قطع بريداً في ثلاثة أيام كان مسافراً ثلاثة أيام ولياليهن فيجب أن يمسح مسح سفر ولو قطع البريد في نصف يوم لم يكن مسافراً فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما اعتبر أن يسافر ثلاثة أيام سواء كان سفره حثيثاً أو بطيئاً سواء كانت الأيام طوالاً أو قصاراً ومن قدره ثلاثة أيام أو يومين جعلوا ذلك بسير الإبل والإقدام وجعلوا المسافة الواحدة حداً يشترك فيه جميع الناس حتى لو قطعها في يوم جعلوه مسافراً ولو قطع ما دونها في عشرة أيام لم يجعلوه مسافراً وهذا مخالف النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى قبا والعوالي واحد ومجيء أصحابه من تلك المواضع إلى المدينة إنما كانوا يسيرون في عمران بين الأبنية والحوائط التي هي النخيل وتلك مواضع الإقامة لا مواضع السفر والمسافر لا بد أن يخرج إلى الصحراء فإن لفظ السفر يدل على ذلك يقال سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي ينكشف فيها بين المساكن لا يكون مسافراً قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ‏"‏ فجعل الناس قسمين‏:‏ أهل المدينة والأعراب والأعراب هم أهل العمود وأهل المدينة هم أهل المدر فجميع من كان ساكناً في مدر كان من أهل المدينة ولم يكن للمدينة سور ينهز به داخلها من خارجها بل كانت محال محال وتسمى المحلة داراً والمحلة القرية الصغيرة فيها المساكن وحولها النخل والمقابر ليست أبنية متصلة فبنو مالك بن النجار في قريتهم حوالي دورهم أموالهم ونخيلهم وبنو عدي بن النجار دارهم كذلك وبنو مازن بن النجار كذلك وبنو سالم كذلك وبنو ساعدة كذلك وبنو الحارث بن الخزرج كذلك وبنو عمرو بن عوف كذلك وبنو عبد الأشهل كذلك وسائر بطون الأنصار كذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ خير دور الأنصار دار بني النجار ثم دار بني عبد الأشهل ثم دار بني الحارث ثم دار بني ساعدة وفي كل دور الأنصار خير ‏"‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل في بني مالك بن النجار وهناك بنى مسجده وكان حائطاً لبعض بني النجار فيه نخل وخرب وقبور فأمر بالنخل فقطعت وبالقبور فنبشت وبالخرب فسويت وبنى مسجده هناك وكانت سائر دور الأنصار حول ذلك قال ابن حزم ولم يكن هناك مصر قال‏:‏ وهذا أمر لا يجهله أحد بل هو نقل الكوافي عن الكوافي وذلك كله مدينة واحدة كما جعل الله الناس نوعين أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب فمن ليس من الأعراب فهو من أهل المدينة لم يجعل للمدينة داخلاً وخارجاً وسوراً وربضاً كما يقال مثل ذلك في المدائن المسورة وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة بريداً في بريد والمدينة بين لابتين واللابة الأرض التي ترابها حجارة سود وقال‏:‏ ‏"‏ ما بين لابتيها حرم ‏"‏ فما بين لابتيها كله من المدينة وهو حرم فهذا بريد لا يكون الضارب فيه مسافراً وإن كان المكي إذا خرج إلى عرفات مسافراً فعرفة ومزدلفة ومنى صحاري خارجة عن مكة ليست كالعوالي من المدينة وهذا أيضاً مما يبين أنه لا اعتبار بمسافة محدودة فإن المسافر في المصر الكبير لو سافر يومين أو ثلاثة لم يكن مسافراً والمسافر عن القرية الصغيرة إذا سافر مثل ذلك كان مسافراً فعلم أنه لا بد أن يقصد بقعة يسافر من مكان إلى مكان فإذا كان ما بين المكانين صحراء لا مساكن فيها يحمل فيها الزاد والمزاد فهو مسافر وإن وجد الزاد والمزاد بالمكان الذي يقصده‏.‏

وكان عثمان جعل حكم المكان الذي يقصده حكم طريقه فلا بد أن يعدم فيه الزاد والمزاد وخالفه أكثر علماء الصحابة وقولهم أرجح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر بمكة عام فتح مكة وفيها الزاد والمزاد وإذا كانت منى قرية فيها زاد ومزاد فبينها وبين مكة صحراء يكون مسافراً من يقطعها كما كان بين مكة وغيرها ولكن عثمان قد تأول في قصر النبي صلى الله عليه وسلم بمكة أنه كان خائفاً لأنه لما فتح مكة والكفار كثيرون وكان قد بلغه أن هوازن جمعت له وعثمان يجوز القصر لمن كان بحضرة عدو كما يحكى عن عثمان أنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالمتعة لأنهم كانوا خائفين وخالفه علي وعمران بن حصين وابن عمر وابن عباس وغيرهم من الصحابة وقولهم هو الراجح فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان آمناً لا يخاف إلا الله وقد أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة والقصر وقصر العدد إنما هو معلق بالسفر ولكن إذا اجتمع الخوف والسفر أبيح قصر العدد وقصر الركعات وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم هو وعمر بعده لما صليا بمكة‏:‏ ‏"‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ‏"‏ بين أن الواجب لصلاتهم ركعتين مجرد كونهم سفراً فلهذا الحكم تعلق بالسفر ولم يعلقه بالخوف‏.‏

فعلم أن قصر العدد لا يشترط فيه خوف بحال وكلام الصحابة أو أكثرهم من هذا الباب يدل على أنهم لم يجعلوا السفر قطع مسافة محدودة أو زمان محدود يشترط فيه جميع الناس بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل فمن رأوه أثبتوا له حكم السفر وإلا فلا‏.‏

ولهذا اختلف كلامهم في مقدار الزمان والمكان فروى وكيع عن الثوري عن منصور بن المعتمر عن مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ إذا سافرت يوماً إلى العشاء فإن زدت فقصر ورواه الحجاج بن منهال ثنا أبو عوانة عن منصور بن المعتمر عن مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ لا يقصر المسافر في مسيرة يوم إلى العتمة إلا في وروى وكيع عن شعبة عن شبيل عن أبي جمرة الضبعي قال‏:‏ قلت لابن عباس أقصر إلى الأيلة قال‏:‏ تذهب وتجيء في يوم قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ لا إلا يوم متاح‏.‏

فهنا قد نهى أن يقصر إذا رجع إلى أهله في يوم هذه مسيرة بريد وأذن في يوم وفي الأول نهاه أن يقصر إلا في أكثر من يوم وقد روي نحو الأول عن عكرمة مولاه قال‏:‏ إذا خرجت من عند أهلك فاقصر فإذا أتيت أهلك فأتمم‏.‏

وعن الأوزاعي‏:‏ لا قصر إلا في يوم تام‏.‏

وروى وكيع عن هشام بن ربيعة بن الغاز الجرشي عن عطاء بن أبي رباح قلت لابن عباس‏:‏ أقصر إلى عرفة قال‏:‏ لا ولكن إلى الطائف وعسفان فذلك ثمانية وأربعون ميلاً‏.‏

وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء قلت لابن عباس‏:‏ أقصر إلى منى أو عرفة قال‏:‏ لا ولكن إلى الطائف أو جدة أو عسفان فإذا وردت على ماشية لك أو أهل فأتم الصلاة وهذا الأثر قد اعتمده أحمد والشافعي‏.‏

قال ابن حزم‏:‏ من عسفان إلى مكة بسير الخلفاء الراشدين اثنان وثلاثون ميلاً قال‏:‏ وأخبرنا الثقاة أن من جدة إلى مكة أربعين ميلاً قلت‏:‏ نهيه عن القصر إلى منى وعرفة قد يكون لمن يقصد ذلك لحاجة ويرجع من يومه إلى مكة حتى يوافق ذلك ما تقدم من الروايات عنه ويؤيد ذلك أن ابن عباس لا يخفى عليه أن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحج إذا خرجوا إلى عرفة ومزدلفة ومنى وابن عباس من أعلم الناس بالسنة فلا يخفى عليه مثل ذلك وأصحابه المكيون كانوا يقصرون في الحج إلى عرفة ومزدلفة كطاوس وغيره وابن عيينة نفسه الذي روى هذا الأثر عن ابن عباس كان يقصر إلى عرفة في الحج وكان أصحاب ابن عباس كطاوس يقول أحدهم‏:‏ أترى الناس - يعني أهل مكة - صلوا في الموسم خلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه حجة قاطعة فإنه من المعلوم أن أهل مكة لما حجوا معه كانوا خلقاً كثيراً وقد خرجوا معه إلى منى يصلون خلفه وإنما صلى بمنى أيام منى قصراً والناس كلهم يصلون خلفه أهل مكة وسائر المسلمين لم يأمر أحداً منهم أن يتم صلاته ولم ينقل ذلك أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ثم أبو بكر وعمر بعده كانا يصليان في الموسم بأهل مكة وغيرهم كذلك ولا يأمران أحداً بإتمام مع أنه قد صح عن عمر بن الخطاب أنه لما صلى بمكة قال‏:‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر وهذا أيضاً مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أهل مكة عام الفتح لا في حجة الوداع فإنه في حجة الوداع لم يكن يصلي بمكة بل كان يصلي بمنزله وقد رواه أبو داود وغيره وفي إسناده مقال‏.‏

والمقصود أن من تدبر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة ومنى بأهل مكة وغيرهم وأنه لم ينقل مسلم قط عنه أنه أمرهم بإتمام علم قطعاً أنهم كانوا يقصرون خلفه وهذا من العلم العام الذي لا يخفى على ابن عباس ولا غيره ولهذا لم يعلم أحداً من الصحابة أمر أهل مكة أن يتموا خلف الإمام إذا صلى ركعتين فدل هذا لم يعلم واحد من الصحابة أمر أهل مكة أن يتموا خلف الإمام إذا صلى ركعتين فدل هذا على أن ابن عباس إنما أجاب به من سأله إذا سافر إلى منى أو عرفة سفراً لا ينزل فيه بمنى وعرفة بل يرجع من يومه فهذا لا يقصر عنده لأنه قد بين أن من ذهب ورجع من يومه لا يقصر وإنما يقصر من سافر يوماً ولم يقل مسيرة يوم بل اعتبر أن يكون السفر يوماً وقد استفاض عنه جواز القصر إلى عسفان وقد ذكر ابن حزم أنها اثنان وثلاثون ميلاً وغيره يقول أربعة برد ثمانية وأربعون ميلاً والذين حدوها ثمانية وأربعين ميلاً عمدتهم قول ابن عباس وابن عمر وأكثر الروايات عنهم تخالف ذلك فلو لم يكن إلا قولهما لم يجز أن يأخذ ببعض أقوالهما دون بعض بل إما أن يجمع بينهما وإما أن يطلب دليل آخر فكيف والآثار عن الصحابة أنواع أخر ولهذا كان المحددون بستة عشر فرسخاً من أصحاب مالك والشافعي وأحمد إنما لهم طريقان بعضهم يقول لم أجد أحداً قال بأقل من القصر فيما دون هذا فيكون هذا إجماعاً وهذه طريقة الشافعي وهذا أيضاً منقول عن الليث ابن سعد فهذان الإمامان بينا عذرهما أنهما لم يعلما من قال بأقل من ذلك وغيرهما قد علم من قال بأقل من والطريقة الثانية‏:‏ أن يقولوا هذا قول ابن عمر وابن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة فصار إجماعاً وهذا باطل فإنه نقل عنهما هذا وغيره وقد ثبت عن غيرهما من الصحابة ما يخالف ذلك‏.‏

وثم طريقة ثالثة سلكها بعض أصحاب الشافعي وأحمد وهي أن هذا التحديد مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن خزيمة في مختصر المختصر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان ‏"‏ وهذا ما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هو من كلام ابن عباس أفترى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حد مسافة القصر لأهل مكة دون أهل المدينة التي هي دار السنة والهجرة والنصرة ودون سائر المسلمين وكيف يقول هذا وقد تواتر عنه أن أهل مكة صلوا خلفه بعرفة ومزدلفة ومنى ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم قط السفر بمسافة لا بريد ولا غير بريد ولا حدهما بزمان ومالك قد نقل عنه أربعة برد كقول الليث والشافعي وأحمد وهو المشهور عنه قال‏:‏ فإن كانت أرض لا أميال فيها فلا يقصرون في أقل من يوم وليلة للثقل قال‏:‏ وهذا أحب ما تقصر فيه الصلاة إلي وقد ذكر عنه لا قصر إلا في خمسة وأربعين ميلاً فصاعداً‏.‏

وروي عنه‏:‏ لا قصر إلا في اثنين وأربعين ميلاً فصاعداً وروي عنه‏:‏ لا قصر إلا في أربعين ميلاً فصاعداً وروى عنه إسماعيل ابن أبي أويس‏:‏ لا قصر إلا في ستة وأربعين ميلاً قصداً‏.‏

ذكر هذه الروايات القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه المبسوط ورأى لأهل مكة خاصة أن يقصروا الصلاة في الحج خاصة إلى منى فما فوقها وهي أربعة أميال‏.‏

وروى عنه ابن القاسم أنه قال فيمن خرج ثلاثة أميال كالرعاء وغيرهم فتأول فأفطر في رمضان‏:‏ لا شيء عليه إلا القضاء فقط وروي عن الشافعي أنه لا قصر في أقل من ستة وأربعين ميلاً بالهاشمي‏.‏

والآثار عن ابن عمر أنواع فروى محمد بن المثنى‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان الثوري سمعت جبلة بن سحيم يقول سمعت ابن عمر يقول‏:‏ لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة‏.‏

وروى ابن أبي شيبة‏:‏ حدثنا وكيع حدثنا مسعر عن محارب بن زياد سمعت ابن عمر يقول‏:‏ إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر - يعني الصلاة -‏.‏

محارب قاضي الكوفة من خيار التابعين أحد الأئمة ومسعر أحد الأئمة‏.‏

وروى ابن أبي شيبة‏:‏ حدثنا علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني عن محمد بن زيد بن خليدة عن ابن عمر قال‏:‏ تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال‏.‏

قال ابن حزم‏:‏ محمد بن زيد هو طائي ولاه محمد بن أبي طالب القضاء بالكوفة مشهور من كبار التابعين‏.‏

وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قصر إلى ذات النصب قال‏:‏ وكنت أسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر‏.‏

قال عبد الرزاق‏:‏ ذات النصب من المدينة على ثمانية عشر ميلاً فهذا نافع يخبر عنه أنه قصر في ستة فراسخ وأنه كان يسافر بريداً وهو أربعة فراسخ فلا يقصر‏.‏

وكذلك روى عنه ما ذكره غندر‏:‏ حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب قال‏:‏ خرجت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى ذات النصب وهي من المدينة على ثمانية عشر ميلاً فلما أتاها قصر الصلاة وروى معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة في مسيرة أربعة برد‏.‏

وما تقدم من الروايات يدل على أنه كان يقصر في هذا وفي ما هو أقل منه‏.‏

وروى وكيع عن سعيد بن عبيد الطائي عن علي بن ربيعة الوالبي الأسدي قال‏:‏ سألت ابن عمر عن تقصير الصلاة قال‏:‏ حاج أو معتمر أو غاز فقلت‏:‏ لا ولكن أحدنا يكون له الضيعة في السواد فقال‏:‏ تعرف السويداء فقلت‏:‏ سمعت بها ولم أرها قال‏:‏ فإنها ثلاث وليلتان وليلة للمسرع إذا خرجنا إليها قصرنا قال ابن حزم من المدينة إلى السويداء اثنان وسبعون ميلاً أربعة وعشرون فرسخاً‏.‏

قلت‏:‏ فهذا مع ما تقدم يبين أن ابن عمر لم يذكر ذلك تحديداً لكن بين بهذا جواز القصر في مثل هذا لأنه كان قد بلغه أن أهل الكوفة لا يقصرون في السواد فأجابه ابن عمر بجواز القصر‏.‏

وأما ما روي من طريق ابن جريج أخبرني نافع أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة إليه مال له بخيبر وهي مسيرة ثلاث قواصد لم يقصر فيما دونه وكذلك ما رواه حماد بن سلمة عن أيوب بن حميد كلاهما عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة فيما بين المدينة وخيبر وهي بقدر الأهواز من البصرة لا يقصر فيما دون ذلك - قال ابن حزم بين المدينة وخيبر كما بين البصرة والأهواز وهي مائة ميل غير أربعة أميال قال‏:‏ وهذا مما اختلف فيه على ابن عمر ثم على نافع أيضاً عن ابن عمر‏.‏

قلت‏:‏ هذا النفي وهو أنه لم يقصر فيما دون ذلك غلط قطعاً ليس هذا حكاية عن قوله حتى يقال أنه اختلف اجتهاده بل نفي لقصره فيما دون ذلك وقد ثبت عنه بالرواية الصحيحة من طريق نافع وغيره أنه قصر فيما دون ذلك فهذا قد يكون غلطاً فمن روى عن أيوب إن قدر أن نافعاً روى هذا فيكون حين حدث بهذا قد نسي أن ابن عمر قصر فيما دون ذلك فإنه قد ثبت عن نافع عنه أنه قصر فيما دون ذلك‏.‏

وروى حماد بن زيد حدثنا أنس بن سيرين قال‏:‏ خرجت مع أنس بن مالك إلى أرضه وهي على رأس خمسة فراسخ فصلى بنا العصر في سفينة وهي تجري بنا في دجلة قاعداً على بساط ركعتين ثم سلم ثم صلى بنا ركعتين ثم سلم‏.‏

وهذا فيه أنه إنما خرج إلى أرضه المذكورة ولم يكن سفره إلى غيرها حتى يقال كانت من طريقه فقصر في خمسة فراسخ وهي بريد وربع وفي صحيح مسلم حدثنا ابن أبي شيبة وابن بشار كلاهما عن غندر عن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة شك - صلى ركعتين ولم ير أنس أن يقطع من المسافة الطويلة هذا لأن السائل سأله عن قصر الصلاة وهو سؤال عما يقصر فيه ليس سؤالاً عن أول صلاة يقصرها ثم إنه لم يقل أحد إن أول صلاة لا يقصرها إلا في ثلاثة أميال أو أكثر من ذلك فليس في هذا جواب لو كان المراد ذلك ولم يقل لك أحد فدل على أن أنساً أراد أنه من سافر هذه المسافة قصر ثم ما أخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم فعل من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هل كان ذلك الخروج هو السفر أو كان ذلك هو الذي قطعه من السفر فإن كان أراد به أن ذلك كان سفره فهو نص وإن كان ذلك الذي قطعه من السفر فأنس بن مالك استدل بذلك على أنه يقصر إليه إذا كان هو السفر يقول أنه لا يقصر إلا في السفر فلولا أن قطع هذه المسافة سفر لما قصر‏.‏

وهذا يوافق قول من يقول لا يقصر حتى يقطع مسافة تكون سفراً لا يكتفي مجرد قصده المسافة التي هي سفر وهذا قول ابن حزم وداود وأصحابه وابن حزم يحد مسافة القصر بميل لكن داود وأصحابه يقولون‏:‏ لا يقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو وابن حزم يقول إنه يقصر في كل سفر وابن حزم عنده أنه لا يفطر إلا في هذه المسافة وأصحابه يقولون إنه يفطر في كل سفر بخلاف القصر لأن القصر ليس عندهم فيه نص عام عن الشارع وإنما فيه فعله أنه قصر في السفر ولم يجدوا أحداً قصر فيما دون ميل ووجدوا الميل منقولاً عن ابن عمر‏.‏

وابن حزم يقول السفر هو البروز عن محلة الإقامة لكن قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع لدفن الموتى وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصروا ولم يفطروا فخرج هذا عن أن يكون سفراً ولم يحدوا أقل من ميل يسمى سفراً فإن ابن عمر قال لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة فلما ثبت أن هذه المسافة جعلها سفراً ولم نجد أعلى منها يسمى سفراً جعلنا هذا هو الحد قال‏:‏ وما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر فلا يقصر فيه ولا يفطر وإذا بلغ الميل فحينئذ صار له سفر يقصر فيه الصلاة ويفطر فيه فيمن حينئذ يقصر ويفطر وكذلك إذا رجع فكان على أقل من ميل فإنه يتم ليس في سفر يقصر فيه‏.‏

قلت‏:‏ جعل هؤلاء السفر محدوداً في اللغة قالوا‏:‏ وأقل ما سمعنا أنه يسمى سفراً هو الميل وأولئك جعلوه محدوداً بالشرع وكلا القولين ضعيف أما الشارع فلم يحده وكذلك أهل اللغة لم ينقل أحد عنهم أنهم قالوا‏:‏ الفرق بين ما يسمى سفراً وما لا يسمى سفراً هو مسافة محدودة بل نفس تحديد السفر بالمسافة باطل في الشرع واللغة ثم لو كان محدوداً بمسافة ميل فإن أريد أن الميل يكون من حدود القرية المختصة به فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج أكثر من ميل من محله في الحجاز ولا يقصر ولا يفطر وإن أراد من المكان المجتمع الذي يشتمله اسم مدينة ميلاً قيل له فلا حجة لك في خروجه إلى المقابر والغائط لأن تلك لم تكن خارجاً عن آخر حد المدينة ففي الجملة كان يخرج إلى العوالي وإلى أحد كما كان يخرج إلى المقابر والغائط وفي ذلك ما هو أبعد من ميل وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخرجون من المدينة إلى أكثر من ميل ويأتون إليها أبعد من ميل ولا يقصرون كخروجهم إلى قباء والعوالي وأحد ودخولهم للجمعة وغيرها من هذه الأماكن‏.‏

وكان كثير من مساكن المدينة عن مسجده أبعد من ميل فإن حرم المدينة بريد في بريد حتى كان الرجلان من أصحابه لبعد المكان يتناوبان الدخول يدخل هذا يوماً وهذا يوماً كما كان عمر بن الخطاب وصاحبه الأنصاري يدخل هذا يوماً وهذا يوماً وقول ابن عمر‏:‏ لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة هو كقوله أني لأسافر الساعة من النهار فأقصر وهذا إما أن يريد به ما يقطعه من المسافة التي يقصدها فيكون قصده أني لا أؤخر القصر إلى أن أقطع مسافة طويلة وهذا قول جماهير العلماء إلا من يقول إذا سافر نهاراً لم يقصر إلى الليل‏.‏

وقد احتج العلماء على هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه صلى الظهر بالمدينة أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين وقد يحمل حديث أنس على هذا لكن فعله يدل على المعنى الأول أو يكون مراد ابن عمر من سافر قصر ولو كان قصده هذه المسافة إذا كان في صحراء بحيث يكون مسافراً لا يكون متنقلاً بين المساكن فإن هذا ليس بمسافر باتفاق الناس وإذا قدر أن هذا مسافر فلو قدر أنه مسافر أقل من الميل بعشرة أذرع فهو أيضاً مسافر فالتحديد بالمسافة لا أصل له في الشرع ولا لغة ولا عرف ولا عقل ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقاً بشيء لا يعرفونه ولم يمسح أحد الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا قدر النبي صلى الله عليه وسلم الأرض لا بأميال ولا فراسخ والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافراً وإن كانت المسافة أقل من ميل بخلاف من يذهب ويرجع من يومه فإنه لا يكون في ذلك مسافراً فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد بخلاف الثاني فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفراً والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً فالسفر يكون بالعمل الذي سمي سفراً لأجله والعمل لا يكون إلا في زمان فإذا طال العمل وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر من الزاد والمزاد سمي مسافراً وإن لم تكن المسافة بعيدة وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد ولم يسم سفراً وإن بعدت المسافة فالأصل هو العمل الذي يسمى سفراً ولا يكون العمل إلا في زمان فيعتبر العمل الذي هو سفر ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن وهذا مما يعرفه الناس بعاداتهم ليس له حد في الشرع ولا اللغة بل سموه سفراً فهو سفر‏.‏
فصل وأما الإقامة فهي خلاف السفر فالناس رجلان مقيم ومسافر

وأما الإقامة فهي خلاف السفر فالناس رجلان مقيم ومسافر ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين إما حكم مقيم وإما حكم مسافر وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ‏"‏ فجعل للناس يوم ظعن ويوم إقامة والله تعالى أوجب الصوم وقال‏:‏ ‏"‏ فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ‏"‏ فمن ليس مريضاً ولا على سفر فهو صحيح المقيم ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ‏"‏ فمن لم يوضع عنه الصوم وشطر الصلاة فهو المقيم‏.‏

وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في حجته بمكة أربعة أيام ثم ستة أيام بمنى ومزدلفة وعرفة يقصر الصلاة هو وأصحابه فدل على أنهم كانوا مسافرين وأقام في غزوة الفتح تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة وأقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ومعلوم بالعادة أن ما كان يفعل بمكة وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال إنه كان يقول اليوم أسافر غداً أسافر بل فتح مكة وأهلها وما حولها كفار محاربون له وهي أعظم مدينة فتحها وبفتحها ذلت الأعداء وأسلمت العرب وسرى السرايا إلى النواحي ينتظر قدومهم ومثل هذه الأمور مما يعلم أنها لا تنقضي في أربعة أيام فعلم أنه أقام لأمور يعلم أنها لا تنقضي في أربعة وكذلك في تبوك‏.‏

وأيضاً فمن جعل للمقام حداً من الأيام إما ثلاثة وإما أربعة وإما عشرة وإما اثني عشر وإما خمسة عشر فإن قال قولاً لا دليل عليه من جهة الشرع وهي تقديرات متقابلة فقد تضمنت هذه الأقوال تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام‏:‏ إلى مسافر وإلى مقيم مستوطن وهو الذي ينوي المقام في المكان وهذا هو الذي تنعقد به الجمعة وتجب عليه وهذا يجب عليه إتمام الصلاة بلا نزاع فإنه المقيم المقابل للمسافر والثالث مقيم غير مستوطن أوجبوا عليه إتمام الصلاة والصيام وأوجبوا عليه الجمعة وقالوا لا تنعقد به الجمعة وقالوا إنما تنعقد الجمعة بمستوطن‏.‏

وهذا التقسيم وهو تقسيم المقيم إلى مستوطن وغير مستوطن تقسيم لا دليل عليه من جهة الشرع ولا دليل على أنه تجب على من لا تنعقد به بل من وجبت عليه انعقدت به وهذا إنما قالوه لما أثبتوا مقيماً يجب عليه الإتمام والصيام ووجدوه غير مستوطن فلم يمكن أن يقولوا تنعقد به الجمعة فإن الجمعة إنما تنعقد بالمستوطن لكن إيجاب الجمعة على هذا وإيجاب الصيام والإتمام على هذا هو الذي يقال إنه لا دليل عليه بل هو مخالف للشرع فإن هذه حال النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في غزوة الفتح وفي حجة الوداع وحاله بتبوك بل وهذه حال جميع الحجيج الذين يقدمون مكة ليقضوا مناسكهم ثم يرجعوا وقد يقدم الرجل بمكة رابع ذي الحجة وقد يقدم قبل ذلك بيوم أو أيام وقد يقدم بعد ذلك وهم كلهم مسافرون لا تجب عليهم جمعة ولا إتمام والنبي صلى الله عليه وسلم قدم رابعة من ذي الحجة وكان يصلي ركعتين لكن من أين لهم أنه لو قدم صبح ثالثة وثانية كان يتم ويأمر أصحابه بالإتمام ليس في قوله وعمله ما يدل على ذلك ولو كان هذا حداً فاصلاً بين المقيم والمسافر لبينه للمسلمين كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ‏"‏ والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام معدودة يقيمها ليس هو أمراً معلوماً لا بشرع ولا لغة ولا عرف وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً والقصر في هذا جائز عند الجماعة وقد سماه إقامة ورخص للمهاجر أن يقيمها فلو أراد المهاجر أن يقيم أكثر من ذلك بعد قضاء النسك لم يكن له ذلك وليس في هذا ما يدل على أن هذه المدة فرق بين المسافر والمقيم بل المهاجر ممنوع أن يقيم بمكة أكثر من ثلاث بعد قضاء المناسك أن الثلاث مقدار يرخص فيه فيما كان محظور الجنس قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ‏"‏ وجعل ما تحرم المرأة بعده من الطلاق ثلاثاً فإذا طلقها ثلاث مرات حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره لأن الطلاق في الأصل مكروه فأبيح منه للحاجة ما تدعو إليه الحاجة وحرمت عليه بعد ذلك إلى الغاية المذكورة ثم المهاجر لو قدم مكة قبل الموسم بشهر أقام إلى الموسم فإن كان لم يبح له إلا فيما يكون سفراً كانت إقامته إلى الموسم سفراً فتقصر فيه الصلاة وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدموا صبح رابعة من ذي الحجة فلو أقاموا بمكة بعد قضاء النسك ثلاثاً كان لهم ذلك ولو أقاموا أكثر من ثلاث لم يجز لهم ذلك وجاز لغيرهم أن يقيم أكثر من ذلك وقد أقام المهاجرون مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح قريباً من عشرين يوماً بمكة ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بها عن السفر ولا كانوا ممنوعين لأنهم كانوا مقيمين لأجل تمام الجهاد وخرجوا منها إلى غزوة حنين وهذا بخلاف من لا يقدم إلا للنسك فإنه لا يحتاج إلى أكثر من ثلاث‏.‏

فعلم أن هذا التحديد لا يتعلق بالقصر ولا بتحديد السفر والذين حدوا ذلك بأربعة منهم من احتج بإقامة المهاجر وجعل يوم الدخول والخروج غير محسوب ومنهم من بنى ذلك على أن الأصل في كل من قدم لمصر أن يكون مقيماً يتم الصلاة لكن ثبتت الأربعة بإقامة النبي صلى الله عليه وسلم في حجته فإنه أقامها وقصر وقالوا في غزوة الفتح وتبوك أنه لم يكن عزم على إقامة مدة لأنه كان يريد عام الفتح غزو حنين وهذا الدليل مبني على أنه من قدم لمصر فقد خرج عن حد السفر وهو ممنوع بل هو مخالف للنص والإجماع والعرف فإن التاجر الذي يقدم ليشتري سلعة أو يبيعها ويذهب هو مسافر عند الناس وقد يشتري السلعة ويبيعها في عدة أيام ولا يحد الناس في ذلك حداً‏.‏

والذين قالوا يقصر إلى خمسة عشر قالوا‏:‏ هذا غاية ما قيل وما زاد على ذلك فهو مقيم بالإجماع وليس الأمر كما قالوه وأحمد أمر بالإتمام فيما زاد على الأربعة احتياطاً واختلفت الرواية عنه إذا نوى إقامة إحدى وعشرين هل يتم أو يقصر لتردد الاجتهاد في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الرابع فإن كان صلى الفجر بمبيته وهو ذو طوى فإنما صلى بمكة عشرين صلاة وإن كان صلى الصبح بمكة فقد صلى بها إحدى وعشرين صلاة والصحيح أنه إنما صلى الصبح يومئذ بذي طوى ودخل مكة ضحى وكذلك جاء مصرحاً به في أحاديث قال أحمد في رواية الأثرم إذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك إثم واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم لصبح رابعة قال فأقام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر فلماذا جمع على أكثر من ذلك إثم قال الأثرم قلت له‏:‏ فلم لم يقصر على ما زاد من ذلك قال‏:‏ لأنهم اختلفوا فيأخذ بالأحوط فيتم‏.‏

قال قيل لأبي عبد الله يقول أخرج اليوم أخرج غداً ليقصر فقال‏:‏ هذا شيء آخر هذا لم يعزم‏.‏

فأحمد لم يذكر دليلاً على وجوب الإتمام إنما أخذ بالاحتياط وهذا لا يقتضي الوجوب وأيضاً فإنه معارض يقول من يوجب القصر ويجعله عزيمة في الزيادة وقد روى الأثرم‏:‏ حدثنا الفضل ابن دكين حدثنا مسعر عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن المسور قال‏:‏ أقمنا مع سعد بعمّان أو بعمان شهرين فكان يصلي ركعتين ونصلي أربعاً فذكرنا ذلك له فقال‏:‏ نحن أعلم‏.‏

قال الأثرم‏:‏ حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول قال بعضهم‏:‏ والثلج الذي يتفق في هذه المدة يعلم أنه لا يذوب في أربعة أيام فقد أجمع إقامة أكثر من أربعة‏.‏

قال الأثرم‏:‏ حدثنا مسلم ابن إبراهيم حدثنا هشام حدثنا يحيى عن حفص بن عبيد الله أن أنس ابن مالك أقام بالشام سنتين يقصر الصلاة‏.‏

قال الأثرم‏:‏ حدثنا الفضل بن دكين حدثنا هشام حدثنا ابن شهاب عن سالم قال‏:‏ كان ابن عمر إذا أقام بمكة قصر الصلاة إلا أن يصلي مع الإمام وإن أقام شهرين إلا أن يجمع الإقامة وابن عمر كان يقدم قبل الموسم بمدة طويلة حتى إنه كان أحياناً يحرم بالحج من هلال ذي الحجة وهو كان من المهاجرين فما كان يحل له المقام بعد قضاء نسكه أكثر من ثلاث ولهذا أوصى لما مات أن يدفن بسرف لكونها من الحل حتى لا يدفن في الأرض التي هاجر منها‏.‏

وقال الأثرم‏:‏ حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع قال‏:‏ ما كان ابن عمر يصلي بمكة إلا ركعتين إلا أن يرفع المقام ولهذا أقام مرة ثنتي عشر يصلي ركعتين وهو يريد الخروج وهذا يبين أنه كان يصلي قبل الموسم ركعتين مع أنه نوى الإقامة إلى الموسم وكان ابن عمر كثير الحج وكان كثيراً ما يأتي مكة قبل الموسم بمدة طويلة‏.‏

قال الأثرم‏:‏ حدثنا ابن الطباع حدثنا القاسم بن موسى الفقير عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن ابن محيريز أن أبا أيوب الأنصاري وأبا صرمة الأنصاري وعقبة بن عامر شتوا بأرض الروم فصاموا رمضان وقاموه وأتموا الصلاة‏.‏

قال الأثرم‏:‏ حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن منصور عن أبي وائل قال خرج مسروق إلى السلسلة فقصر الصلاة فأقام سنين يقصر حتى رجع وهو يقصر قيل يا أبا عائشة ما يحملك على هذا قال‏:‏ إتباع السنة‏.‏


فصل والذين لم يكرهوا أن يصلي المسافر أربعاً ظنوا أن النبي فعل ذلك

والذين لم يكرهوا أن يصلي المسافر أربعاً ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أو فعله بعض أصحابه على عهده فأقره عليه وظنوا أن صلاة المسافر ركعتين وأربعاً بمنزلة الصوم والفطر في رمضان وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة بأنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم الصائم ومنهم المفطر وهذا مما اتفق أهل العلم على صحته وأما ما ذكروه من التربيع فحسبه بعض أهل العلم صحيحاً وبذلك استدل الشافعي وبعض أصحاب أحمد قال الشافعي لما ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ‏"‏ فدل على أن القصر في السفر بلا خوف صدقة من الله والصدقة رخصة لا حتم من الله أن يقصر ودل على أن يقصر في السفر بلا خوف إن شاء المسافر أن عائشة قالت‏:‏ كل ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم في السفر وقصر قلت‏:‏ وهذا الحديث رواه الدارقطني وغيره من حديث أبي عاصم حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم قال الدارقطني‏:‏ هذا إسناد صحيح قال البيهقي‏:‏ ولهذا شاهد من حديث دلهم بن صالح والمغيرة بن زياد وطلحة بن عمر وكلهم ضعيف وروي حديث دلهم من حديث عبيد الله بن موسى حدثنا دلهم بن صالح الكندي عن عطاء عن عائشة قالت‏:‏ كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجنا إلى وروى حديث المغيرة وهو أشهرها عن عطاء عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم وروى حديث طلحة بن عمر عن عطاء عن عائشة قالت‏:‏ كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتم وقصر وصام وأفطر‏.‏

قال البيهقي وقد قال عمر بن ذر كوفي ثقة‏:‏ أنا عطاء بن أبي رباح أن عائشة كانت تصلي في السفر المكتوبة أربعاً وروى ذلك بإسناده ثم قال وهو كالموافق لرواية دلهم بن صالح وإن كان في رواية دلهم زيادة سند‏.‏

قلت‏:‏ أما ما رواه الثقة عن عطاء عن عائشة من أنها كانت تصلي أربعاً فهذا ثابت عن عائشة معروف عنها من رواية عروة وغيره عن عائشة وإذا كان إنما أسنده هؤلاء الضعفاء والثقاة وثقوه على عائشة دل ذلك على ضعف المسند ولم يكن ذلك شاهداً للمسند قال ابن حزم في هذا الحديث انفرد به المغيرة بن زياد ولم يروه غيره وقد قال فيه أحمد بن حنبل‏:‏ ضعيف كل حديث أسنده منكر‏.‏

قلت‏:‏ فقد روي من غير طريقه لكنه ضعيف أيضاً وقد ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل أن أباه سئل عن هذا الحديث فقال‏:‏ هذا حديث منكر وهو كما قال الإمام أحمد وإن كان طائفة من أصحابه قد احتجوا به موافقة لمن احتج به كالشافعي ولا ريب أن هذا حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم مع أن من الناس من يقول لفظه كان يقصر في السفر وتتم ويفطر وتصوم بمعنى أنها هي التي كانت تتم وتصوم وهذا أشبه بما روي عنها من غير هذا الوجه من أنه كذب عليها أيضاً‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وله شاهد قوي بإسناد صحيح وروي من طريق الدارقطني من طريق محمد بن يوسف حدثنا العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت‏:‏ خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصمت وقصر وأتممت فقلت‏:‏ يا رسول الله بأبي أنت وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت قال‏:‏ ‏"‏ أحسنت يا عائشة ‏"‏ ورواه البيهقي من طريق آخر عن القاسم بن الحكم ثنا العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة لم يذكر إياه‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ الأول متصل وهو إسناد حسن وعبد الرحمن قد أدرك عائشة فدخل عليها وهو مراهق ورواه البيهقي من وجه ثالث من حديث أبي بكر النيسابوري ثنا عباس الدوري ثنا أبو نعيم حدثنا العلاء بن زهير ثنا عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت‏:‏ يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت فقال‏:‏ ‏"‏ أحسنت يا عائشة ‏"‏ وما عاب علي‏.‏

قال أبو بكر النيسابوري‏:‏ هكذا قال أبو نعيم عن عبد الرحمن عن عائشة ومن قال عن أبيه في هذا الحديث فقد أخطأ‏.‏

قلت‏:‏ أبو بكر النيسابوري إمام في الفقه والحديث وكان له عناية بالأحاديث الفقهية وما فيها من اختلاف الألفاظ وهو أقرب إلى طريقه أهل الحديث والعلم التي لا تعصب فيها لقول أحد من الفقهاء مثل أئمة الحديث المشهورين ولهذا رجح هذه الطريق وكذلك أهل السنن المشهورة لم يروه أحد منهم إلا النسائي ولفظه عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت‏:‏ يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت فقال‏:‏ ‏"‏ أحسنت يا عائشة ‏"‏ وما عاب علي وهذا بخلاف من قد يقصد نصر قول شخص معين فتنطق له من الأدلة ما لو خلا عن ذلك القصد لم يتكلفه ولحكم ببطلانها‏.‏

والصواب ما قاله أبو بكر وهو أن هذا الحديث ليس بمتصل وعبد الرحمن إنما دخل على عائشة وهو صبي ولم يضبط ما قالته وقال فيه أبو محمد بن حزم هذا الحديث تفرد به العلاء ابن زهير الأزدي لم يروه غيره وهو مجهول وهذا الحديث خطأ قطعاً فإنه قال فيه إنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان ومعلوم باتفاق أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط ولا خرج من المدينة في عمرة في رمضان بل ولا خرج إلى مكة في رمضان قط إلا عام الفتح فإنه كان حينئذ مسافراً في رمضان وفتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان باتفاق أهل العلم وفي ذلك السفر كان أصحابه منهم الصائم ومنهم المفطر فلم يكن يصلي بهم إلا ركعتين ولا نقل أحد من أصحابه عنه أنه صلى في السفر أربعاً والحديث المتقدم خطأ كما سنبينه إن شاء الله تعالى وعام فتح مكة لم يعتمر بل ثبت بالنقول المستفيضة التي اتفق عليها أهل العلم به إنما اعتمر بعد الهجرة أربع عمر منها ثلاث في ذي القعدة والرابعة مع حجته‏:‏ عمرة الحديبية لما صده المشركون فحل بالحديبية بالاحصار ولم يدخل مكة وكانت في ذي القعدة ثم اعتمر في العام القابل عمرة القضية وكانت ذي القعدة أيضاً ثم لما قسم غنائم حنين بالجعرانة اعتمر من الجعرانة وكانت عمرته في ذي القعدة أيضاً والرابعة مع حجته ولم يعتمر بعد حجه لا هو ولا أحد ممن حج معه إلا عائشة لما كانت قد حاضت وأمرها أن تهل بالحج ثم اعمرها مع أخيها عبد الرحمن من التنعيم ولهذا قيل لما بني هناك من المساجد مساجد عائشة فإنه لم يعتمر أحد من الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا قبل الفتح ولا بعده عمرة من مكة إلا عائشة فهذا كله تواترت به الأحاديث الصحيحة مثل ما في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجه‏:‏ عمرة من الحديبية في ذي القعدة وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة وعمرة من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته‏.‏

وهذا لفظ مسلم‏.‏

ولفظ البخاري اعتمر أربعاً عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم وعمرة حنين من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع وفي الصحيحين عن البرآء بن عازب قال‏:‏ اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين‏.‏

وهذا لفظ البخاري‏.‏

وأراد بذلك العمرة التي أتمها وهي عمرة القضية والجعرانة وأما الحديبية فلم يمكن إتمامها بل كان منحصراً لما صده المشركون وفيها أنزل الله آية الحصار باتفاق أهل العلم وقد ثبت في الصحيح عن عائشة لما قيل لها إن ابن عمر قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب فقالت‏:‏ يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه وما اعتمر في رجب قط ما اعتمر إلا وهو معه‏.‏

وفي رواية عن عائشة قالت‏:‏ لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة وكذلك عن ابن عباس رواهما ابن ماجة‏.‏

وقد روى أبو داود عنها قالت‏:‏ اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال وهذا إن كان ثابتاً عنها فلعله ابتداء سفره كان في شوال ولم تقل قط أنه اعتمر في رمضان فعلم أن ذلك خطأ محض‏.‏

وإذا ثبت بالأحاديث الصحيحة أنه لم يعتمر إلا في ذي القعدة وثبت أيضاً أنه لم يسافر من المدينة إلى مكة ودخلها إلا ثلاث مرات عمرة القضية ثم غزوة الفتح ثم حجة الوداع وهذا مما لا يتنازع فيه أهل العلم بالحديث والسيرة وأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسافر في رمضان إلى مكة إلا غزوة الفتح كان كل من هذين دليلاً قاطعاً على أن هذا الحديث الذي فيه أنها اعتمرت معه في رمضان وقالت‏:‏ أتممت وصمت فقال‏:‏ أحسنت خطأ محض‏.‏

فعلم قطعاً أنه باطل لا يجوز لمن علم حاله أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله‏:‏ ‏"‏ من روى عني حديثاً وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ‏"‏ ولكن من حدث من العلماء الذين لا يستحلون هذا فلم يعلموا أنه كذب‏.‏

فإن قيل فيكون قوله في رمضان خطأ وسائر الحديث يمكن صدقه قيل بل جميع طرقه تدل على أن ذلك كان في رمضان لأنها قالت‏:‏ قلت أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال‏:‏ أحسنت يا عائشة وهذا إنما يقال في الصوم الواجب‏.‏

وأما السفر في غير رمضان فلا يذكر فيه مثل هذا لأنه معلوم أن الفطر فيه جائز وأيضاً فقد روى البيهقي وغيره بالإسناد الثابت عن الشعبي عن عائشة أنها قالت‏:‏ فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب ففرضت ثلاثاً فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر صلى الصلاة الأولى وإذا قام زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا المغرب لأنها وتر والصبح لأنها تطول فيها القراءة فقد أخبرت عائشة أنه كان إذا سافر صلى الصلاة الأولى ركعتين ركعتين فلو كان تارة يصلي أربعاً لأخبرت بذلك وهذا يناقض تلك الرواية المكذوبة على عائشة‏.‏

وأيضاً فعائشة كانت حديثة السن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات وعمرها أقل من عشرين سنة لما بنى بها بالمدينة كان لها تسع سنين وإنما أقام بالمدينة عشراً فإذا كان قد بنى بها في أول الهجرة كان عمرها قريباً من عشرين ولو قدر أنه بنى بها بعد ذلك لكان عمرها حينئذ أقل وأيضاً فلو كانت كبيرة فهي إنما تتعلم الإسلام وشرائعه من النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يتصور أن تصوم وتصلي معه في السفر خلاف ما يفعله هو وسائر المسلمين وسائر أزواجه ولا تخبره بذلك حتى تصل إلى مكة هل يظن مثل هذا بعائشة أم المؤمنين وما بالها فعلت هذا في هذه السفرة دون سائر أسفارها معه وكيف تطيب نفسها بخلافه من غير استئذانه وقد ثبت عنها في الصحيحين بالأسانيد الثابتة باتفاق أهل العلم أنها قالت‏:‏ فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة‏.‏

وهذا من رواية الزهري عن عروة عن عائشة ورواية أصحابه الثقات ومن رواية صالح بن كيسان عن عروة وعن عائشة يرويه مثل ربيعة ومن رواية الشعبي عن عائشة وهذا مما اتفق أهل العلم بالحديث على أنه صحيح ثابت عن عائشة فكيف تقدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تصلي في السفر قبل أن تستأذنه وهي تراه والمسلمين معه لا يصلون إلا ركعتين وأيضاً فهي لما أتمت الصلاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج بأنها فعلت ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذكر ذلك أخبر الناس بها عروة ابن أختها بل اعتذرت بعذر من جهة الاجتهاد كما رواه النيسابوري والبيهقي وغيرهما بالأسانيد الثابتة عن وهب بن جرير ثنا شعبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تصلي في السفر أربعاً فقلت لها‏:‏ لو صليت ركعتين فقالت‏:‏ يا ابن أخي إنه لا يشق علي‏.‏

وأيضاً فالحديث الثابت عن صالح بن كيسان أن عروة بن الزبير حدثه عن عائشة أن الصلاة حين فرضت كانت ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر على ركعتين وأتمت في الحضر أربعاً‏.‏

قال صالح‏:‏ فأخبر بها عمر بن عبد العزيز فقال‏:‏ إن عروة أخبرني أن عائشة تصلي أربع ركعات في السفر قال‏:‏ فوجدت عروة يوماً عنده فقلت‏:‏ كيف أخبرتني عن عائشة فحدث مما حدثني به‏.‏

فقال عمر‏:‏ أليس حدثتني أنها كانت تصلي أربعاً في السفر قال‏:‏ بلى‏.‏

وفي الصحيحين عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت‏:‏ أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر‏.‏

قال الزهري‏:‏ قلت فما شأن عائشة كانت تتم الصلاة قال‏:‏ أنها تأولت كما تأول عثمان فهذا عروة يروي عنها أنها اعتذرت عن إتمامها بأنها قالت‏:‏ لا يشق علي وقال‏:‏ إنها تأولت كما تأول عثمان فدل ذلك على أن إتمامها كان بتأويل من اجتهادها ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن لها الإتمام أو كان هو قد أتم لكانت قد فعلت ذلك إتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك عثمان ولم يكن ذلك مما يتأول بالاجتهاد‏.‏

ثم إن هذا الحديث أقوى ما اعتمد عليه من الحديث من قال بالإتمام في السفر وقد عرف أنه باطل فكيف بما هو أبطل منه وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يتم في السفر ويقصر وهذا خلاف المعلوم بالتواتر من سنته التي اتفق عليها أصحابه نقلاً عنه وتبليغاً إلى أمته لم ينقل عنه قط أحمد من أصحابه أنه صلى في السفر أربعاً بل تواترت الأحاديث عنهم أنه كان يصلي في السفر ركعتين هو وأصحابه‏.‏

والحديث الذي يرويه زيد العمي عن أنس بن مالك قال‏:‏ إنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر فمنا الصائم ومنا المفطر ومنا المتم ومنا المقصر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المتم على المقصر‏.‏

هو كذب بلا ريب وزيد العمي ممن اتفق العلماء على أنه متروك والثابت عن أنس إنما هو في الصوم ومما يبين ذلك أنهم في السفر مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يصلون فرادى بل كانوا يصلون بصلاته بخلاف الصوم فإن الإنسان قد يصوم وقد يفطر فهذا الحديث من الكذب وإن كان البيهقي روى هذا فهذا مما أنكر عليه ورآه أهل العلم لا يستوفي الآثار التي لمخالفيه كما يستوفي الآثار التي له وأنه يحتج بآثار لو احتج بها مخالفوه لأظهر ضعفها وقدح فيها وإنما أوقعه في هذا مع علمه ودينه ما أوقع أمثاله ممن يريد أن يجعل آثار النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لقول واحد من العلماء دون آخر فمن سلك هذه السبيل دحضت حججه وظهر عليه نوع من التعصب بغير الحق كما يفعل ذلك من يجمع الآثار ويتأولها في كثير من المواضع بتأويلات يبين فسادها ليوافق القول الذي ينصره كما يفعله صاحب شرح الآثار أبو جعفر مع أنه يروي من الآثار أكثر مما يروي البيهقي لكن البيهقي ينقي الآثار ويميز بين صحيحها وسقيمها أكثر من الطحاوي‏.‏

والحديث الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقصر ويتم ويفطر ويصوم قد قيل أنه مصحف وإنما لفظه كان يقصر وتتم هي بالتاء ويفطر وتصوم هي ليكون معنى هذا الحديث معنى الحديث الآخر الذي إسناده أمثل منه فإنه معروف عن عبد الرحمن بن الأسود لكنه لم يحفظ عن عائشة‏.‏

وأما نقل هذا الآخر عن عطاء فغلط على عطاء قطعاً وإنما الثابت عن عطاء أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعاً كما رواه غيره ولو كان عند عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة لكانت تحتج بها ولو كان ذلك معروفاً من فعله لم تكن عائشة أعلم بذلك من أصحابه الرجال الذين كانوا يصلون خلفه دائماً في السفر فإن هذا السفر مما تكون عائشة أعلم به من غيرها من الرجال كقيامه بالليل واغتساله من الإكسال فضلاً عن أن تكون مختصة بعلمه بل أمور السفر أصحابه أعلم بحاله فيها من عائشة لأنها لم تكن تخرج معه في كل أسفاره فإنه قد ثبت في الصحيح عنها أنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيهن خرج سهمها خرج بها معه فإنما كان يسافر بها أحياناً وكانت تكون مخدرة في خدرها وقد ثبت عنها في الصحيح أنها لما سألها شريح بن هاني عن المسح على الخفين قالت‏:‏ سل علياً فإنه كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم هذا والمسح على الخفين أمر قد يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في منزله في السفر فتراه دون الرجال بخلاف الصلاة المكتوبة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصليها في الحضر ولا في السفر إلا إماماً بأصحابه إلا أن يكون له عذر من مرض أو غيبة لحاجة كما غاب يوم ذهب ليصلح بين أهل قباء وكما غاب في السفر للطهارة فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم الصبح ولما حضر النبي صلى الله عليه وسلم حسن ذلك وصوبه وإذا كان الإتمام إنما كان والرجال يصلون خلفه فهذا مما يعلمه الرجال قطعاً وهو مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإن ذلك مخالف لعادته في عامة أسفاره فلو فعله أحياناً لتوفرت هممهم ودواعيهم على نقله كما نقلوا عنه المسح على الخفين لما فعله وإن كان الغالب عليه الوضوء وكما نقلوا عنه الجمع بين الصلاتين أحياناً وإن كان الغالب عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها الخاص مع أن مخالفة لسنته أظهر من مخالفة بعض الوقت لبعض فإن الناس لا يشعرون بمرور الأوقات كما يشعرون بما يشاهدونه من اختلاف العذر فإن هذا أمر يرى بالعين إلى تأمل واستدلال بخلاف خروج وقت الظهر وخروج وقت المغرب فإنه يحتاج إلى تأمل ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أن جمعه إنما كان في غير عرفة ومزدلفة بأن يقدم الثانية ويؤخر الأولى إلى آخر وقتها وقد روي أنه كان يجمع كذلك فهذا مما يقع فيه شبهة بخلاف الصلاة أربعاً لو فعل ذلك في السفر فإن هذا لم يكن يقع فيه شبهة ولا نزاع بل كان ينقله المسلمون ومن جوز عليه أن يصلي في السفر أربعاً - ولا ينقله أحد من الصحابة ولا يعرف قط إلا من رواية واحد مضعف عن آخر عن عائشة والروايات الثابتة عن عائشة لا توافقه بل تخالفه - فإنه لو روي له بإسناد من هذا الجنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر مرة أربعاً لصدق ذلك ومثل هذا ينبغي أن يصدق بكل الأخبار التي من هذا الجنس التي ينفرد فيه الواحد مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ويعلم أنه لو كان حقاً لكان ينقل ويستفيض وهذا في الضعف مثل أن ينقل عنه أنه قال لأهل مكة بعرفة ومزدلفة ومنى‏:‏ ‏"‏ أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ‏"‏ وينقل ذلك عن عمر ولا ينقل إلا من طريق ضعيف مع العلم بأن ذلك لو كان حقاً لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله وذلك مما روى أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي نضرة قال‏:‏ سأل سائل عمران بن الحصين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فقال‏:‏ إن هذا الفتى يسألني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فاحفظوهن عني ما سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً قط إلا صلى ركعتين حتى يرجع وشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً والطائف فكان يصلي ركعتين ثم حججت معه واعتمرت فصلى ركعتين ثم قال‏:‏ ‏"‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ‏"‏ ثم حججت مع أبي بكر واعتمرت فصلى ركعتين ركعتين ثم قال‏:‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ثم حججت مع عمر واعتمرت فصلى ركعتين وقال‏:‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ثم حججت مع عثمان واعتمرت فصلى ركعتين ركعتين ثم إن عثمان أتم فما ذكره في هذا الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في السفر قط إلا ركعتين هو مما اتفقت عليه سائر الروايات فإن جميع الصحابة إنما نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في السفر ركعتين‏.‏

وأما ما ذكره من قوله‏:‏ ‏"‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ‏"‏ فهذا مما قاله بمكة عام الفتح لم يقله في حجته وإنما هذا غلط وقع في هذه الرواية‏.‏

وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن حميد عن حماد بإسناده رواه البيهقي من طرقه ولفظه‏:‏ ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً إلا صلى ركعتين حتى يرجع ويقول‏:‏ ‏"‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ‏"‏ وغزا الطائف وحنين فصلى ركعتين وأتى الجعرانة فاعتمر منها وحججت مع أبي بكر واعتمرت فكان يصلي ركعتين وحججت مع عمر بن الخطاب فكان يصلي ركعتين فلم يذكر قوله إلا عام الفتح قبل غزوة حنين والطائف ولم يذكر ذلك عن أبي بكر وعمر وقد رواه أبو داود في سننه صريحاً من حديث ابن علية‏:‏ حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين قال‏:‏ عرفت مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة يصلي ركعتين يقول‏:‏ ‏"‏ يا أهل البلد صلوا أربعاً فإنا قوم سفر ‏"‏ وهذا إنما كان في غزوة الفتح في نفس مكة لم يكن بمنى وكذلك الثابت عن عمر أنه صلى بأهل مكة في الحج ركعتين ثم قال عمر بعد ما سلم‏:‏ أتموا الصلاة يا أهل مكة فإنا قوم سفر‏.‏

هذا ومما يبين ذلك أن هذا لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من الصحابة لا ممن نقل صلاته ولا ممن نقل نسكه وحجه مع توفر الهمم والدواعي على نقله مع أن أئمة فقهاء الحرمين كانوا يقولون أن المكيين يقصرون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى أفيكون كان معروفاً عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك أم كانوا جهالاً بمثل هذا الأمر الذي يشيع ولا يجهله أحد ممن حج مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي الصحيحين عن حارثة بن خزاعة قال‏:‏ صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أكثر ما كنا وآمنه ركعتين‏.‏

حارثة هذا خزاعي وخزاعة منزلها حول مكة‏.‏

وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال‏:‏ صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع وقال‏:‏ صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين‏.‏

وإتمام عثمان رضي الله عنه قد قيل أنه كان لأنه تأهل بمكة فصار مقيماً وفي المسند عن عبد الرحمن بن أبي ذآب أن عثمان صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه فقال‏:‏ يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ من تأهل في بلد فليصل صلاة مقيم بمكة ثلاثة أيام ويقصر الرابعة ‏"‏ فإنه يقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذاك فإن عثمان كان من المهاجرين وكان المقام بمكة حراماً عليهم‏.‏

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً وكان عثمان إذا اعتمر يأمر براحلته فتهيأ له فيركب عليها عقب العمرة لئلا يقيم بمكة فكيف يتصور أنه يعتقد أنه صار مستوطناً بمكة إلا أن يقال أنه جعل التأهل إقامة لا إستيطاناً فيقال معلوم أن من أقام بمكة ثلاثة أيام فإنه يقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذلك لكن قد يكون نفس التأهل مانعاً من القصر وهذا أيضاً بعيد فإن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بمنى وأيضاً فالأمراء بعد عثمان من بني أمية كانوا يتمون إقتداءً به ولو كان عذره مختصاً به لم يفعلوا ذلك وقيل إنه خشي أن الأعراب يظنون أن الصلاة أربع وهذا أيضاً ضعيف فإن الأعراب كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أجهل منهم في زمن عثمان ولم يتمم الصلاة وأيضاً فهم يرون صلاة المسلمين في المقام أربع ركعات وأيضاً فظنهم أن السنة في صلاة المسافر أربع خطأ منهم فلا يسوغ مخالفة السنة ليحصل بالمخالفة ما هو بمثل ذلك وعروة قد قال أن عائشة تأولت كما تأول عثمان وعائشة أخبرت أن الإتمام لا يشق عليها أن يكون ذلك كما رآه من رآه لأجل شقة السفر ورأوا أن الدنيا لما اتسعت عليهم لم يحصل لهم من المشقة ما كان يحصل على من كان صلى أربعاً كما قد جاء عن عثمان من نهيه عن المتعة التي هي الفسخ أن ذلك كان لأجل حاجتهم إذ ذاك إلى هذه المتعة فتلك الحاجة قد زالت‏.‏

تمت‏.‏

هذا آخر ما وجدته من هذه القاعدة الجليلة للشيخ تقي الدين بن تيمية وكان المنقول عنها يقول كاتبها أنه نقلها من نسخة بخط ابن المقيم رحمهم الله وقد وقع الفراغ غداة يوم الجمعة 8 صفر سنة 1341 في المدرسة الداودية من بغداد المحمية وأنا الفقير عبد الكريم بن السيد عباس الأزجي والحمد لله رب العالمين‏.‏
فصل والذين لم يكرهوا أن يصلي المسافر أربعاً ظنوا أن النبي فعل ذلك

والذين لم يكرهوا أن يصلي المسافر أربعاً ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أو فعله بعض أصحابه على عهده فأقره عليه وظنوا أن صلاة المسافر ركعتين وأربعاً بمنزلة الصوم والفطر في رمضان وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة بأنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم الصائم ومنهم المفطر وهذا مما اتفق أهل العلم على صحته وأما ما ذكروه من التربيع فحسبه بعض أهل العلم صحيحاً وبذلك استدل الشافعي وبعض أصحاب أحمد قال الشافعي لما ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ‏"‏ فدل على أن القصر في السفر بلا خوف صدقة من الله والصدقة رخصة لا حتم من الله أن يقصر ودل على أن يقصر في السفر بلا خوف إن شاء المسافر أن عائشة قالت‏:‏ كل ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم في السفر وقصر قلت‏:‏ وهذا الحديث رواه الدارقطني وغيره من حديث أبي عاصم حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم قال الدارقطني‏:‏ هذا إسناد صحيح قال البيهقي‏:‏ ولهذا شاهد من حديث دلهم بن صالح والمغيرة بن زياد وطلحة بن عمر وكلهم ضعيف وروي حديث دلهم من حديث عبيد الله بن موسى حدثنا دلهم بن صالح الكندي عن عطاء عن عائشة قالت‏:‏ كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجنا إلى وروى حديث المغيرة وهو أشهرها عن عطاء عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم وروى حديث طلحة بن عمر عن عطاء عن عائشة قالت‏:‏ كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتم وقصر وصام وأفطر‏.‏

قال البيهقي وقد قال عمر بن ذر كوفي ثقة‏:‏ أنا عطاء بن أبي رباح أن عائشة كانت تصلي في السفر المكتوبة أربعاً وروى ذلك بإسناده ثم قال وهو كالموافق لرواية دلهم بن صالح وإن كان في رواية دلهم زيادة سند‏.‏

قلت‏:‏ أما ما رواه الثقة عن عطاء عن عائشة من أنها كانت تصلي أربعاً فهذا ثابت عن عائشة معروف عنها من رواية عروة وغيره عن عائشة وإذا كان إنما أسنده هؤلاء الضعفاء والثقاة وثقوه على عائشة دل ذلك على ضعف المسند ولم يكن ذلك شاهداً للمسند قال ابن حزم في هذا الحديث انفرد به المغيرة بن زياد ولم يروه غيره وقد قال فيه أحمد بن حنبل‏:‏ ضعيف كل حديث أسنده منكر‏.‏

قلت‏:‏ فقد روي من غير طريقه لكنه ضعيف أيضاً وقد ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل أن أباه سئل عن هذا الحديث فقال‏:‏ هذا حديث منكر وهو كما قال الإمام أحمد وإن كان طائفة من أصحابه قد احتجوا به موافقة لمن احتج به كالشافعي ولا ريب أن هذا حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم مع أن من الناس من يقول لفظه كان يقصر في السفر وتتم ويفطر وتصوم بمعنى أنها هي التي كانت تتم وتصوم وهذا أشبه بما روي عنها من غير هذا الوجه من أنه كذب عليها أيضاً‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وله شاهد قوي بإسناد صحيح وروي من طريق الدارقطني من طريق محمد بن يوسف حدثنا العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت‏:‏ خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصمت وقصر وأتممت فقلت‏:‏ يا رسول الله بأبي أنت وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت قال‏:‏ ‏"‏ أحسنت يا عائشة ‏"‏ ورواه البيهقي من طريق آخر عن القاسم بن الحكم ثنا العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة لم يذكر إياه‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ الأول متصل وهو إسناد حسن وعبد الرحمن قد أدرك عائشة فدخل عليها وهو مراهق ورواه البيهقي من وجه ثالث من حديث أبي بكر النيسابوري ثنا عباس الدوري ثنا أبو نعيم حدثنا العلاء بن زهير ثنا عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت‏:‏ يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت فقال‏:‏ ‏"‏ أحسنت يا عائشة ‏"‏ وما عاب علي‏.‏

قال أبو بكر النيسابوري‏:‏ هكذا قال أبو نعيم عن عبد الرحمن عن عائشة ومن قال عن أبيه في هذا الحديث فقد أخطأ‏.‏

قلت‏:‏ أبو بكر النيسابوري إمام في الفقه والحديث وكان له عناية بالأحاديث الفقهية وما فيها من اختلاف الألفاظ وهو أقرب إلى طريقه أهل الحديث والعلم التي لا تعصب فيها لقول أحد من الفقهاء مثل أئمة الحديث المشهورين ولهذا رجح هذه الطريق وكذلك أهل السنن المشهورة لم يروه أحد منهم إلا النسائي ولفظه عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت‏:‏ يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت فقال‏:‏ ‏"‏ أحسنت يا عائشة ‏"‏ وما عاب علي وهذا بخلاف من قد يقصد نصر قول شخص معين فتنطق له من الأدلة ما لو خلا عن ذلك القصد لم يتكلفه ولحكم ببطلانها‏.‏

والصواب ما قاله أبو بكر وهو أن هذا الحديث ليس بمتصل وعبد الرحمن إنما دخل على عائشة وهو صبي ولم يضبط ما قالته وقال فيه أبو محمد بن حزم هذا الحديث تفرد به العلاء ابن زهير الأزدي لم يروه غيره وهو مجهول وهذا الحديث خطأ قطعاً فإنه قال فيه إنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان ومعلوم باتفاق أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط ولا خرج من المدينة في عمرة في رمضان بل ولا خرج إلى مكة في رمضان قط إلا عام الفتح فإنه كان حينئذ مسافراً في رمضان وفتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان باتفاق أهل العلم وفي ذلك السفر كان أصحابه منهم الصائم ومنهم المفطر فلم يكن يصلي بهم إلا ركعتين ولا نقل أحد من أصحابه عنه أنه صلى في السفر أربعاً والحديث المتقدم خطأ كما سنبينه إن شاء الله تعالى وعام فتح مكة لم يعتمر بل ثبت بالنقول المستفيضة التي اتفق عليها أهل العلم به إنما اعتمر بعد الهجرة أربع عمر منها ثلاث في ذي القعدة والرابعة مع حجته‏:‏ عمرة الحديبية لما صده المشركون فحل بالحديبية بالاحصار ولم يدخل مكة وكانت في ذي القعدة ثم اعتمر في العام القابل عمرة القضية وكانت ذي القعدة أيضاً ثم لما قسم غنائم حنين بالجعرانة اعتمر من الجعرانة وكانت عمرته في ذي القعدة أيضاً والرابعة مع حجته ولم يعتمر بعد حجه لا هو ولا أحد ممن حج معه إلا عائشة لما كانت قد حاضت وأمرها أن تهل بالحج ثم اعمرها مع أخيها عبد الرحمن من التنعيم ولهذا قيل لما بني هناك من المساجد مساجد عائشة فإنه لم يعتمر أحد من الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا قبل الفتح ولا بعده عمرة من مكة إلا عائشة فهذا كله تواترت به الأحاديث الصحيحة مثل ما في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجه‏:‏ عمرة من الحديبية في ذي القعدة وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة وعمرة من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته‏.‏

وهذا لفظ مسلم‏.‏

ولفظ البخاري اعتمر أربعاً عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم وعمرة حنين من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع وفي الصحيحين عن البرآء بن عازب قال‏:‏ اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين‏.‏

وهذا لفظ البخاري‏.‏

وأراد بذلك العمرة التي أتمها وهي عمرة القضية والجعرانة وأما الحديبية فلم يمكن إتمامها بل كان منحصراً لما صده المشركون وفيها أنزل الله آية الحصار باتفاق أهل العلم وقد ثبت في الصحيح عن عائشة لما قيل لها إن ابن عمر قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب فقالت‏:‏ يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه وما اعتمر في رجب قط ما اعتمر إلا وهو معه‏.‏

وفي رواية عن عائشة قالت‏:‏ لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة وكذلك عن ابن عباس رواهما ابن ماجة‏.‏

وقد روى أبو داود عنها قالت‏:‏ اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال وهذا إن كان ثابتاً عنها فلعله ابتداء سفره كان في شوال ولم تقل قط أنه اعتمر في رمضان فعلم أن ذلك خطأ محض‏.‏

وإذا ثبت بالأحاديث الصحيحة أنه لم يعتمر إلا في ذي القعدة وثبت أيضاً أنه لم يسافر من المدينة إلى مكة ودخلها إلا ثلاث مرات عمرة القضية ثم غزوة الفتح ثم حجة الوداع وهذا مما لا يتنازع فيه أهل العلم بالحديث والسيرة وأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسافر في رمضان إلى مكة إلا غزوة الفتح كان كل من هذين دليلاً قاطعاً على أن هذا الحديث الذي فيه أنها اعتمرت معه في رمضان وقالت‏:‏ أتممت وصمت فقال‏:‏ أحسنت خطأ محض‏.‏

فعلم قطعاً أنه باطل لا يجوز لمن علم حاله أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله‏:‏ ‏"‏ من روى عني حديثاً وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ‏"‏ ولكن من حدث من العلماء الذين لا يستحلون هذا فلم يعلموا أنه كذب‏.‏

فإن قيل فيكون قوله في رمضان خطأ وسائر الحديث يمكن صدقه قيل بل جميع طرقه تدل على أن ذلك كان في رمضان لأنها قالت‏:‏ قلت أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال‏:‏ أحسنت يا عائشة وهذا إنما يقال في الصوم الواجب‏.‏

وأما السفر في غير رمضان فلا يذكر فيه مثل هذا لأنه معلوم أن الفطر فيه جائز وأيضاً فقد روى البيهقي وغيره بالإسناد الثابت عن الشعبي عن عائشة أنها قالت‏:‏ فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب ففرضت ثلاثاً فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر صلى الصلاة الأولى وإذا قام زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا المغرب لأنها وتر والصبح لأنها تطول فيها القراءة فقد أخبرت عائشة أنه كان إذا سافر صلى الصلاة الأولى ركعتين ركعتين فلو كان تارة يصلي أربعاً لأخبرت بذلك وهذا يناقض تلك الرواية المكذوبة على عائشة‏.‏

وأيضاً فعائشة كانت حديثة السن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات وعمرها أقل من عشرين سنة لما بنى بها بالمدينة كان لها تسع سنين وإنما أقام بالمدينة عشراً فإذا كان قد بنى بها في أول الهجرة كان عمرها قريباً من عشرين ولو قدر أنه بنى بها بعد ذلك لكان عمرها حينئذ أقل وأيضاً فلو كانت كبيرة فهي إنما تتعلم الإسلام وشرائعه من النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يتصور أن تصوم وتصلي معه في السفر خلاف ما يفعله هو وسائر المسلمين وسائر أزواجه ولا تخبره بذلك حتى تصل إلى مكة هل يظن مثل هذا بعائشة أم المؤمنين وما بالها فعلت هذا في هذه السفرة دون سائر أسفارها معه وكيف تطيب نفسها بخلافه من غير استئذانه وقد ثبت عنها في الصحيحين بالأسانيد الثابتة باتفاق أهل العلم أنها قالت‏:‏ فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة‏.‏

وهذا من رواية الزهري عن عروة عن عائشة ورواية أصحابه الثقات ومن رواية صالح بن كيسان عن عروة وعن عائشة يرويه مثل ربيعة ومن رواية الشعبي عن عائشة وهذا مما اتفق أهل العلم بالحديث على أنه صحيح ثابت عن عائشة فكيف تقدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تصلي في السفر قبل أن تستأذنه وهي تراه والمسلمين معه لا يصلون إلا ركعتين وأيضاً فهي لما أتمت الصلاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج بأنها فعلت ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذكر ذلك أخبر الناس بها عروة ابن أختها بل اعتذرت بعذر من جهة الاجتهاد كما رواه النيسابوري والبيهقي وغيرهما بالأسانيد الثابتة عن وهب بن جرير ثنا شعبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تصلي في السفر أربعاً فقلت لها‏:‏ لو صليت ركعتين فقالت‏:‏ يا ابن أخي إنه لا يشق علي‏.‏

وأيضاً فالحديث الثابت عن صالح بن كيسان أن عروة بن الزبير حدثه عن عائشة أن الصلاة حين فرضت كانت ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر على ركعتين وأتمت في الحضر أربعاً‏.‏

قال صالح‏:‏ فأخبر بها عمر بن عبد العزيز فقال‏:‏ إن عروة أخبرني أن عائشة تصلي أربع ركعات في السفر قال‏:‏ فوجدت عروة يوماً عنده فقلت‏:‏ كيف أخبرتني عن عائشة فحدث مما حدثني به‏.‏

فقال عمر‏:‏ أليس حدثتني أنها كانت تصلي أربعاً في السفر قال‏:‏ بلى‏.‏

وفي الصحيحين عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت‏:‏ أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر‏.‏

قال الزهري‏:‏ قلت فما شأن عائشة كانت تتم الصلاة قال‏:‏ أنها تأولت كما تأول عثمان فهذا عروة يروي عنها أنها اعتذرت عن إتمامها بأنها قالت‏:‏ لا يشق علي وقال‏:‏ إنها تأولت كما تأول عثمان فدل ذلك على أن إتمامها كان بتأويل من اجتهادها ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن لها الإتمام أو كان هو قد أتم لكانت قد فعلت ذلك إتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك عثمان ولم يكن ذلك مما يتأول بالاجتهاد‏.‏

ثم إن هذا الحديث أقوى ما اعتمد عليه من الحديث من قال بالإتمام في السفر وقد عرف أنه باطل فكيف بما هو أبطل منه وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يتم في السفر ويقصر وهذا خلاف المعلوم بالتواتر من سنته التي اتفق عليها أصحابه نقلاً عنه وتبليغاً إلى أمته لم ينقل عنه قط أحمد من أصحابه أنه صلى في السفر أربعاً بل تواترت الأحاديث عنهم أنه كان يصلي في السفر ركعتين هو وأصحابه‏.‏

والحديث الذي يرويه زيد العمي عن أنس بن مالك قال‏:‏ إنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر فمنا الصائم ومنا المفطر ومنا المتم ومنا المقصر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المتم على المقصر‏.‏

هو كذب بلا ريب وزيد العمي ممن اتفق العلماء على أنه متروك والثابت عن أنس إنما هو في الصوم ومما يبين ذلك أنهم في السفر مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يصلون فرادى بل كانوا يصلون بصلاته بخلاف الصوم فإن الإنسان قد يصوم وقد يفطر فهذا الحديث من الكذب وإن كان البيهقي روى هذا فهذا مما أنكر عليه ورآه أهل العلم لا يستوفي الآثار التي لمخالفيه كما يستوفي الآثار التي له وأنه يحتج بآثار لو احتج بها مخالفوه لأظهر ضعفها وقدح فيها وإنما أوقعه في هذا مع علمه ودينه ما أوقع أمثاله ممن يريد أن يجعل آثار النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لقول واحد من العلماء دون آخر فمن سلك هذه السبيل دحضت حججه وظهر عليه نوع من التعصب بغير الحق كما يفعل ذلك من يجمع الآثار ويتأولها في كثير من المواضع بتأويلات يبين فسادها ليوافق القول الذي ينصره كما يفعله صاحب شرح الآثار أبو جعفر مع أنه يروي من الآثار أكثر مما يروي البيهقي لكن البيهقي ينقي الآثار ويميز بين صحيحها وسقيمها أكثر من الطحاوي‏.‏

والحديث الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقصر ويتم ويفطر ويصوم قد قيل أنه مصحف وإنما لفظه كان يقصر وتتم هي بالتاء ويفطر وتصوم هي ليكون معنى هذا الحديث معنى الحديث الآخر الذي إسناده أمثل منه فإنه معروف عن عبد الرحمن بن الأسود لكنه لم يحفظ عن عائشة‏.‏

وأما نقل هذا الآخر عن عطاء فغلط على عطاء قطعاً وإنما الثابت عن عطاء أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعاً كما رواه غيره ولو كان عند عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة لكانت تحتج بها ولو كان ذلك معروفاً من فعله لم تكن عائشة أعلم بذلك من أصحابه الرجال الذين كانوا يصلون خلفه دائماً في السفر فإن هذا السفر مما تكون عائشة أعلم به من غيرها من الرجال كقيامه بالليل واغتساله من الإكسال فضلاً عن أن تكون مختصة بعلمه بل أمور السفر أصحابه أعلم بحاله فيها من عائشة لأنها لم تكن تخرج معه في كل أسفاره فإنه قد ثبت في الصحيح عنها أنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيهن خرج سهمها خرج بها معه فإنما كان يسافر بها أحياناً وكانت تكون مخدرة في خدرها وقد ثبت عنها في الصحيح أنها لما سألها شريح بن هاني عن المسح على الخفين قالت‏:‏ سل علياً فإنه كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم هذا والمسح على الخفين أمر قد يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في منزله في السفر فتراه دون الرجال بخلاف الصلاة المكتوبة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصليها في الحضر ولا في السفر إلا إماماً بأصحابه إلا أن يكون له عذر من مرض أو غيبة لحاجة كما غاب يوم ذهب ليصلح بين أهل قباء وكما غاب في السفر للطهارة فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم الصبح ولما حضر النبي صلى الله عليه وسلم حسن ذلك وصوبه وإذا كان الإتمام إنما كان والرجال يصلون خلفه فهذا مما يعلمه الرجال قطعاً وهو مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإن ذلك مخالف لعادته في عامة أسفاره فلو فعله أحياناً لتوفرت هممهم ودواعيهم على نقله كما نقلوا عنه المسح على الخفين لما فعله وإن كان الغالب عليه الوضوء وكما نقلوا عنه الجمع بين الصلاتين أحياناً وإن كان الغالب عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها الخاص مع أن مخالفة لسنته أظهر من مخالفة بعض الوقت لبعض فإن الناس لا يشعرون بمرور الأوقات كما يشعرون بما يشاهدونه من اختلاف العذر فإن هذا أمر يرى بالعين إلى تأمل واستدلال بخلاف خروج وقت الظهر وخروج وقت المغرب فإنه يحتاج إلى تأمل ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أن جمعه إنما كان في غير عرفة ومزدلفة بأن يقدم الثانية ويؤخر الأولى إلى آخر وقتها وقد روي أنه كان يجمع كذلك فهذا مما يقع فيه شبهة بخلاف الصلاة أربعاً لو فعل ذلك في السفر فإن هذا لم يكن يقع فيه شبهة ولا نزاع بل كان ينقله المسلمون ومن جوز عليه أن يصلي في السفر أربعاً - ولا ينقله أحد من الصحابة ولا يعرف قط إلا من رواية واحد مضعف عن آخر عن عائشة والروايات الثابتة عن عائشة لا توافقه بل تخالفه - فإنه لو روي له بإسناد من هذا الجنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر مرة أربعاً لصدق ذلك ومثل هذا ينبغي أن يصدق بكل الأخبار التي من هذا الجنس التي ينفرد فيه الواحد مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ويعلم أنه لو كان حقاً لكان ينقل ويستفيض وهذا في الضعف مثل أن ينقل عنه أنه قال لأهل مكة بعرفة ومزدلفة ومنى‏:‏ ‏"‏ أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ‏"‏ وينقل ذلك عن عمر ولا ينقل إلا من طريق ضعيف مع العلم بأن ذلك لو كان حقاً لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله وذلك مما روى أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي نضرة قال‏:‏ سأل سائل عمران بن الحصين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فقال‏:‏ إن هذا الفتى يسألني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فاحفظوهن عني ما سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً قط إلا صلى ركعتين حتى يرجع وشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً والطائف فكان يصلي ركعتين ثم حججت معه واعتمرت فصلى ركعتين ثم قال‏:‏ ‏"‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ‏"‏ ثم حججت مع أبي بكر واعتمرت فصلى ركعتين ركعتين ثم قال‏:‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ثم حججت مع عمر واعتمرت فصلى ركعتين وقال‏:‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ثم حججت مع عثمان واعتمرت فصلى ركعتين ركعتين ثم إن عثمان أتم فما ذكره في هذا الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في السفر قط إلا ركعتين هو مما اتفقت عليه سائر الروايات فإن جميع الصحابة إنما نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في السفر ركعتين‏.‏

وأما ما ذكره من قوله‏:‏ ‏"‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ‏"‏ فهذا مما قاله بمكة عام الفتح لم يقله في حجته وإنما هذا غلط وقع في هذه الرواية‏.‏

وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن حميد عن حماد بإسناده رواه البيهقي من طرقه ولفظه‏:‏ ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً إلا صلى ركعتين حتى يرجع ويقول‏:‏ ‏"‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ‏"‏ وغزا الطائف وحنين فصلى ركعتين وأتى الجعرانة فاعتمر منها وحججت مع أبي بكر واعتمرت فكان يصلي ركعتين وحججت مع عمر بن الخطاب فكان يصلي ركعتين فلم يذكر قوله إلا عام الفتح قبل غزوة حنين والطائف ولم يذكر ذلك عن أبي بكر وعمر وقد رواه أبو داود في سننه صريحاً من حديث ابن علية‏:‏ حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين قال‏:‏ عرفت مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة يصلي ركعتين يقول‏:‏ ‏"‏ يا أهل البلد صلوا أربعاً فإنا قوم سفر ‏"‏ وهذا إنما كان في غزوة الفتح في نفس مكة لم يكن بمنى وكذلك الثابت عن عمر أنه صلى بأهل مكة في الحج ركعتين ثم قال عمر بعد ما سلم‏:‏ أتموا الصلاة يا أهل مكة فإنا قوم سفر‏.‏

هذا ومما يبين ذلك أن هذا لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من الصحابة لا ممن نقل صلاته ولا ممن نقل نسكه وحجه مع توفر الهمم والدواعي على نقله مع أن أئمة فقهاء الحرمين كانوا يقولون أن المكيين يقصرون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى أفيكون كان معروفاً عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك أم كانوا جهالاً بمثل هذا الأمر الذي يشيع ولا يجهله أحد ممن حج مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي الصحيحين عن حارثة بن خزاعة قال‏:‏ صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أكثر ما كنا وآمنه ركعتين‏.‏

حارثة هذا خزاعي وخزاعة منزلها حول مكة‏.‏

وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال‏:‏ صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع وقال‏:‏ صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين‏.‏

وإتمام عثمان رضي الله عنه قد قيل أنه كان لأنه تأهل بمكة فصار مقيماً وفي المسند عن عبد الرحمن بن أبي ذآب أن عثمان صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه فقال‏:‏ يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ من تأهل في بلد فليصل صلاة مقيم بمكة ثلاثة أيام ويقصر الرابعة ‏"‏ فإنه يقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذاك فإن عثمان كان من المهاجرين وكان المقام بمكة حراماً عليهم‏.‏

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً وكان عثمان إذا اعتمر يأمر براحلته فتهيأ له فيركب عليها عقب العمرة لئلا يقيم بمكة فكيف يتصور أنه يعتقد أنه صار مستوطناً بمكة إلا أن يقال أنه جعل التأهل إقامة لا إستيطاناً فيقال معلوم أن من أقام بمكة ثلاثة أيام فإنه يقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذلك لكن قد يكون نفس التأهل مانعاً من القصر وهذا أيضاً بعيد فإن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بمنى وأيضاً فالأمراء بعد عثمان من بني أمية كانوا يتمون إقتداءً به ولو كان عذره مختصاً به لم يفعلوا ذلك وقيل إنه خشي أن الأعراب يظنون أن الصلاة أربع وهذا أيضاً ضعيف فإن الأعراب كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أجهل منهم في زمن عثمان ولم يتمم الصلاة وأيضاً فهم يرون صلاة المسلمين في المقام أربع ركعات وأيضاً فظنهم أن السنة في صلاة المسافر أربع خطأ منهم فلا يسوغ مخالفة السنة ليحصل بالمخالفة ما هو بمثل ذلك وعروة قد قال أن عائشة تأولت كما تأول عثمان وعائشة أخبرت أن الإتمام لا يشق عليها أن يكون ذلك كما رآه من رآه لأجل شقة السفر ورأوا أن الدنيا لما اتسعت عليهم لم يحصل لهم من المشقة ما كان يحصل على من كان صلى أربعاً كما قد جاء عن عثمان من نهيه عن المتعة التي هي الفسخ أن ذلك كان لأجل حاجتهم إذ ذاك إلى هذه المتعة فتلك الحاجة قد زالت‏.‏

تمت‏.‏

هذا آخر ما وجدته من هذه القاعدة الجليلة للشيخ تقي الدين بن تيمية وكان المنقول عنها يقول كاتبها أنه نقلها من نسخة بخط ابن المقيم رحمهم الله وقد وقع الفراغ غداة يوم الجمعة 8 صفر سنة 1341 في المدرسة الداودية من بغداد المحمية وأنا الفقير عبد الكريم بن السيد عباس الأزجي والحمد لله رب العالمين‏.‏


شيخالإسلامتقيالدينأحمدبنعبدالحليمبنتيميةالحراني
اضافة رد مع اقتباس
   


إضافة رد


قوانين المشاركة
غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
غير مصرّح لك بنشر ردود
غير مصرّح لك برفع مرفقات
غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك

وسوم vB : مسموح
[IMG] كود الـ مسموح
كود الـ HTML غير مسموح
Trackbacks are مسموح
Pingbacks are مسموح
Refbacks are مسموح



الوقت المعتمد في المنتدى بتوقيت جرينتش +3.
الوقت الان » 08:18 AM.

جميع الآراء و المشاركات المنشورة تمثل وجهة نظر كاتبها فقط , و لا تمثل بأي حال من الأحوال وجهة نظر النادي و مسؤوليه ولا إدارة الموقع و مسؤوليه.


Powered by: vBulletin Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd

Google Plus   Facebook  twitter  youtube