25/01/2004, 02:27 AM
|
زعيــم فعــال | | تاريخ التسجيل: 22/06/2003
مشاركات: 304
| |
الحلقة الرابعة من مسلسل الأبطال ومع مؤذن الإسلام "بلال بن رباح"
كان "عمر بن الخطاب". إذا ذُكِر "أبو بكر" قال:
"أبو بكر سيَّدُنا، وأعتقَ سيَّدُنا"...
يعني "بلالاً"...
وإن رجلاً يلقبه الفاروق بـ "سيدنا" لهو رجل عظيم ومحظوظ...
في كل بقعة من الأرض يقطنها مسلمون.. تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: مَنْ بلال، يا غلام..؟
فيجيبك: إنه مؤذن الرسول.. وإنه العبد الذي كان سيده يعذبه بالحجارة المستعرة ليردّه عن دينه، فيقول:
"أَحَدٌ.. أَحَدٌ..".
***
إنه حبشي من امة السود.. جعلته مقاديره عبداً لأناس بن بني جُمَح بمكة، حيث كانت أمّهُ إحدى إمائهم وجواريهم..
كان يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه، ولا أمل له في غده..!!
ولقد بدأت أنباء "محمد" تنادي سمعه، حين أخذ الناس في مكة يتناقلونها، وحين كان يصغي إلى أحاديث سادته وأضيافهم، سيما "أمية بن خلف"أحد شيوخ "بني جُمَح" القبيلة التي كان "بلال" أحد عبيدها..
لطالما سمع أميةَ وهو يتحدث مع أصدقائه حيناً، وأفراد قبيلته أحياناً عن الرسول حديثاً يطفح غيظاً، وغماً، وشراً..
وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجون، الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد... وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها... كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..!!
ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوماً كاذباً. ولا ساحراً.. ولا مجنوناً.. وإن لم يكن لنا بدّ من وصْمِه اليوم بذلك كله، حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون إلى دينه..!!
وسمعهم "بلال" يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحدَّيه وعداوته، تلك هي: ولاءهم لدين آبائهم أولاً... والخوف على مجد قريش ثانياً –ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني، كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب، كلها، ثم الحقد على بني هاشم، أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول..!
***
وذات يوم، يبصر "بلال بن رباح" نور الله، ويسمع في أعماق روحه الخيَّرة رنينه، فيذهب إلى رسول الله، ويُسْلم...
ولا يلبث خبر إسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح..
وتجثم شياطين الأرض فوق صدر "أمية بن خلف" الذي رأى في إسلام عبد من عُبْدانهم لطمة جللّتهم جميعاً بالخزي والعار..
عبدهم الحبشي يُسلم، ويتبع محمداً..؟!!
ويقول "أمية" لنفسه: ومع هذا فلا بأس.. إن شمس هذا اليوم لن تغرب إلا ويغرب معها إسلام هذا العبد الآبق..!!
ولكن الشمس لم تغرب قط بإسلام "بلال" بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها، وحماة الوثنية فيها..!!
***
أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفاً للإسلام وحده –وإن كان الإسلام أحق به- ولكنه شرف للإنسانية جميعاً..
لقد صمد لأقسى ألوان التعذيب صمود الأبرار العظام.
لقد أعطى "بلال" درساً للذين في زمانه، وفي كل زمان، للذين على دينه، وعلى كل دين.. درساً فحواه أن حرية الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهباً، ولا بمثلها عذاباً..
لقد وُضِع عُرْياناً فوق الجمر، على أن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى...
لقد جعل الرسول عليه السلام، والإسلام، من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذاً للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته وسيادته..
لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها إلى جهنم قاتلة...
فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عُرْيان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره...
ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رَقّت لبلال من هول عذابَه بعض قلوب جَلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة –لا غير- تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم وإصراره...
ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه، ويشتري بها حياته ونفسه، دون أن يفقد إيمانه، ويتخلى على اقتناعه..
حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة رفض "بلال" أن يقولها..!
نعم، لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد:
"أَحَدٌ.. أَحَدٌ.."
يصيح به جلادوه، بل ويتوسلون إليه قائلين: "اذكر اللاتَ والعُزَّى"...’فيجيبهم:
"أَحَدٌ.. أَحَدٌ.."
يقولون له: قل كما نقول..
فيجيبهم في تهكم عجيب، وسخرية كاوية:
"إن لساني لا يُحْسِنُه"..!!
ويظل "بلال" في ذوب الحميم وصخره، حتى إذا حان الأصيل أقاموه، وجعلوا في عنقه حبلاً، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها... وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس "أَحَدٌ.. أَحَدٌ.."
وكأني إذا جَنّ عليهم الليل يساومونه:
غداً قل كلمات خيرٍ في آلهتنا، قل: ربَّي اللاتَ والعُزَّى، لِنذَرك وشأنك، فقد تعبنا من تعذيبك، حتى لكأننا نحن المعذَّبون!
فيهز رأسه ويقول: "أَحَدٌ.. أَحَدٌ.."
ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمَّاً وغيظاً، ويصيح:
أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟ واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلاً..
ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس:
"أَحَدٌ.. أَحَدٌ.."
وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة، ويؤخذ بلال إلى الرَّمْضاء، وهو صابر محتسب، صامد ثابت.
ويذهب إليهم أبو بكر الصديق وهم يعذبونه، ويصيح بهم:
"أتقتلون رجلاً أنْ يقولَ رَبَّي الله"؟؟
ثم يصيح في أمية بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرَّا...
وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..
لقد طابت نفسه وسَعِدَت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره إذ كان اليأس من تطويع بلال قد بلغ في نفوسهم أشده، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أدركوا أن بيعه أربح لهم من موته..
باعوه لأبي بكر الذي حَرَّره من فوره، وأخذ "بلال" مكانه بين الرجال الأحرار...
وانطلق بصاحبه إلى رسول الله يبشره بتحريره... وكان عيداً عظيماً!
وبعد هجرة الرسول والمسلمين إلى المدينة، واستقرارهم بها، يُشَرَّعُ الرسول للصلاة أذانها...
فمن يكون المؤذَّن للصلاة خمس مرات كل يوم...؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟
إنه بلال... الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحد.. أحد".
لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للإسلام.
وبصوته النديّ، والشجيّ، مضى يملأ الأفئدة إيماناً، والأسماع روعة وهو ينادي:
الله أكبر.. الله أكبر
الله أكبر.. الله أكبر
أشهد أن لا إلَّه إلا الله
أشهد أن لا إلَّه إلا الله
أشهد أن محمداً رسول الله
أشهد أن محمداً رسول الله
حَيَّ على الصلاة
حَيَّ على الصلاة
حّيَّ على الفلاح
حّيَّ على الفلاح
الله أكبر.. الله أكبر
لا الله إلا الله....
وينشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم المدينة غازياً...
وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية... وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الإسلام، غزوة "بدر"... تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون شعارها: "أحد.. أحد".
***
في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ كبدها، وخرج أشرافها جميعاً لمصارعهم..!!
ولقد هَمَّ بالنكوص عن الخروج "أمية بن خلف".. هذا الذي كان سيداً لبلال، والذي كان يعذبه في وحشية قاتلة...
هَمَّ بالنكوص لولا أن ذهب إليه صديقه "عقبة بن أبي معيط" حين علم نبأ تخاذله وتقاعده، حاملاً في يمينه "مجمرة" حتى إذا واجهه وهو جالس وسط قومه، ألقى المجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي، اسْتَجْمِرْ بهذه، فإنما أنت من النساء..!!!
وصاح به أمية قائلاً: قبحك الله، وقبح ما جئت به..
ثم لم يجد بُدَّا من الخروج مع الغزاة فخرج..
لقد كان "أمية" من القاعدين عن الحرب... ولولا تشهير عقبة به على النحو الذي رأينا لما خرج..!!
وإن القدر ليحلو له أن يسخر من الجبارين... فعقبة الذي كان أمية يُصْغي لتحريضه، ويسارع إلى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء، هو نفسه الذي سيقود أمية إلى مصرعه..
وبيد مَن...؟
بيد بلال نفسه.. وبلال وحده!!
وحين بدأ القتال بين الفريقين، وارتجَّ جانب المعركة من قِبَل المسلمين بشعارهم:
"أحد.. أحد.." انخلع قلب أمية، وجاءه النذير..
وتلاحَمَت السيوف، وحَمِيَ القتال...
وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف "عبد الرحمن بن عوف" صاحب رسول الله، فاحتمى وطلب إليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته...
وقَبِلَ عبد الرحمن وأجاره، ثم سار به وسط المعمعة إلى مكان الأسرى.
وفي الطريق لمحه "بلال" فصائح قائلاً:
"رأسُ الكفر، أميةُ بن خلف... لا نجوتُ إنْ نجا"..
ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي طالما أثقله الغرور والكِبْر، فصاح به عبد الرحمن بن عوف:
"أيْ بلال.. إنه أسيري".
أسير، والحرب مشبوبة ودائرة..؟؟
أسير، وسيفه يقطر دماً مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين...؟
ورأى "بلال" أنه لن يقدر وحده على اقتحام حِمى أخيه في الدين "عبد الرحمن بن عوف" فصاح بأعلى صوته في المسلمين:
"يا أنصار الله... رأسُ الكُفر أمية بن خلف، لا نجوتُ إنْ نجا"..!
وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا، وأحاطت بأمية وأبنه –وكان يحارب مع قريش- ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئاً... بل لم يستطع أن يحمي أدْراعه التي بدَّدَها الزحام.
وألقى بلال على جثمان أمية الذي هَوَى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة، ثم هرول عنه مسرعاً وصوته النَّدِي يصيح:
"أحَدٌ.. أحَدٌ.."
***
وعاش بلال مع رسول الله، يشهد معه المشاهد كلها، ويؤذَّن للصلاة، ويُحيي ويَحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات إلى النور، ومن الرَّقَّ إلى الحرية...
وعلا شأن الإسلام، وعلا معه شأن المسلمين، وكان بلال يزداد كل يوم قرباً من قلب رسول الله الذي كان يصفه بأنه "رجلٌ من أهل الجنة"...
وذهب الرسول إلى الرفيق الأعلى راضياً مرضيَّاً، ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته "أبو بكر الصدَّيق"..
وذهب بلال إلى خليفة رسول الله يقول له:
"يا خلفية رسول الله...
إني سمعت رسول الله يقول: "أفضلُ عملِ المؤمنِ، الجهادُ في سبيل الله"..
قال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال..؟
قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت..
قال أبو بكر: ومن يُؤذَّنُ لنا..؟؟
قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع، إني لا أُوذَّنُ لأحد بعد رسول الله.
قال أبو بكر: بل ابق وأذَّن لنا يا بلال..
قال بلال: إن كنت أعتقّتني لأكون لك فليكن ما تريد، وإن كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له...
قال أبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال..
ولم يصدح بالآذان صوته الشجيّ الحفيّ المهيب، ذلك أنه لم يكن ينطق في أذانه: "أشهد أن محمداً رسول الله" حتى تجيش به الذكريات فيختفي صوته تحت وقع أساه، وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.
وكان أخر أذان له، أيام زار الشام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وتوسل المسلمون إليه أن يحمل بلال على أن يؤذَّن لهم صلاة واحدة.
ودعا أمير المؤمنين بلالاً، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذَّن لها.
وصعد بلال وأذَّن... فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذَّن له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبداً... وكان "عمر" أشدهم بكاء...!!
***
ومات بلال في الشام مرابطاً في سبيل الله كما أراد.
وتحت ثَرَى دمشق يثوى –اليوم- رُفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف إلى جانب العقيدة والاقتناع...
***
ولتكوني معي في الحلقة الخامسة من مسلسل الأبطال ومع بطل خامس من أبطال الإسلام..
بطل القادسية، وفاتح المدائن..
ومطفئ النار المعبودة في فارس إلى الأبد..!!
إنه الأسدُ في براثِنِه "سعد بن أبي وقاص" رضي الله عنه.. |