فصل الكلام على التشبه بالكفار في أعيادهم ولغتهم مع إيراد النصوص والإجماع
إذا تقرر هذا الأصل، فنقول: موافقتهم في أعيادهم محرمة لا تجوز من طريقين: الطريق الأول: العام وهو ما تقدم من أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس من ديننا ولا عادة سلفنا، فيكون فيه مفسدة موافقتهم وفي تركه مصلحة مخالفتهم -كما تقدمت الإشارة إليه-، ومن جهة أنه من البدع المحدثة، ولا ريب أن هذه الطريق تدل على كراهة الموافقة لهم والتشبه بهم في ذلك، فإن أقل أحوال التشبه بهم: الكراهة، وكذلك أقل أحوال البدع.
ويدل كثير منها على تحريم التشبه بهم في العيد، مثل قوله صلى الله عليه وسلم من تشبه بقوم فهو منهم وقوله: خالفوا المشركين ومثل ما ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأعيادهم من سبيلهم إلى غير ذلك من الأدلة.
فمن نظر فيما تقدم تبين له دخول هذه المسألة في كثير مما تقدم من الدلائل، وتبين له أن هذا من جنس أعمالهم التي هي دينهم أو شعار دينهم الباطل، وأنه محرم بخلاف ما لم يكن من خصائص دينهم، مثل نزع النعلين في الصلاة، فإنه جائز كما أن لبسهما جائز.
الطريق الثاني: الخاص في نفس أعيادهم، فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار.
أما الكتاب، فمما تأوله غير واحد من التابعين وغيرهم في قوله
-تعالى-: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أنه الشعانين، ذكره ابن سيرين .
وعن الربيع بن أنس أنه أعياد المشركين .
وعن عكرمة قال: هو لعب كان لهم في الجاهلية .
وروى أبو الشيخ الأصبهاني عن الضحاك قال: "أعياد المشركين".
وعنه: "عيد المشركين" .
وعن عمر قال: إياكم ورطانة الأعاجم! وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم! .
وقول هؤلاء التابعين: إنه أعياد الكفار ليس مخالفا لقول بعضهم: إنه الشرك، أو صنم كان في الجاهلية، ولقول بعضهم: إنه مجالس الخنا، وقول بعضهم: إنه الغناء؛ لأن عادة السلف في تفسيرهم هكذا، يذكر الرجل نوعا من أنواع المسمى لحاجة المستمع إليه، أو لينبه على الجنس، كما لو قال العجمي: ما الخبز؟ فيعطى رغيفا ويقال له: هذا بالإشارة إلى جنس لا إلى العين، وقال قوم: إنه شهادة الزور التي هي الكذب، وهذا فيه نظر، فإنه قال: لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ولم يقل: لا يشهدون بالزور، فإن العرب تقول: شهدت كذا إذا حضرته، كقول ابن عباس: "شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم" وقول عمر: "الغنيمة لمن شهد الوقعة" وأما شهدت بكذا بمعنى أخبرت به، فتسمية هذا الإتيان زورا، وقد ذم الله من يقول الزور، قال: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ففعل الزور كذلك، بل الفعل أشد، فيكون حراما؛ لأنه خلاف الأمر، وبكل حال يدخل في الآية أنه مكروه، وهو من مطلوبنا، إذ قد يظن بعض الناس أن بعض ما يفعلونه يكون مستحبا، مثل التوسعة على العيال ونحوه، فهذه تدل على كراهة ذلك مطلقا، سواء دلت الآية على التحريم أو الكراهة أو استحباب تركه حصل المقصود.
وأما السنة فمن وجوه: أحدها: روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ فقالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال: إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر رواه أبو داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد عن حميد عن أنس، ورواه أحمد والنسائي وهذا إسناد على شرط مسلم، فلم يقرهما على العيدين الجاهليين، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: إن الله أبدلكم بهما يومين آخرين، والإبدال يقتضي ترك المبدل منه؛ إذ لا يجمع بين البدل والمبدل.
وكذلك مات ذلك اليومان في الإسلام فلم يبق لهما أثر، فإنه قد يعجز كثير من الملوك عن نقل الناس عن عاداتهم في أعيادهم لقوة مقتضيها من نفوسهم وتوفر همم الجماهير على اتخاذها، لا سيما طباع النساء والصبيان، فلولا قوة المانع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانت باقية ولو على وجه ضعيف، فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتا، وكل ما منع منه الرسول منعا قويا كان محرما، وهذا بين لا شبهة فيه، والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها؛ لأن الأمة قد حُذروا مشابهة اليهود والنصارى، وأخبروا أنه سيفعل ذلك بخلاف دين الجاهلية، فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر عند اخترام أنفس المؤمنين عموما، ولو لم يكن أشد منه فهو مثله؛ إذ الشر الذي له فاعل موجود يخاف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضى له قوي.
الوجه الثاني: روى أبو داود أن رجلا نذر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟". قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟. قالوا: لا. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" وأصل هذا الحديث في الصحيحين، وإسناده على شرطهما.
فوجه الدلالة أن هذا الناذر لما نذر الذبح سأله: هل كان بها وثن أو عيد لهم؟ ثم قال: لا وفاء لنذر في معصية الله، فدل على أن الذبح بمكان عيدهم وموضع أوثانهم معصية، فإنه عقب فأوف بالفاء، فيدل على أن الوصف هو سبب الحكم، فيكون سبب الوفاء بالنذر وجوده خاليا عن هذين الوصفين، ويكون الوصفان مانعين من الوفاء، وإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه، فكيف بالموافقة في نفس العيد.
وبوانة بضم الباء بواحدة من أسفل، موضع.
وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان، وأعياد الكفار من الكتابيين والأميين في دين الإسلام من جنس واحد، كما أن كفرهم سواء في التحريم، وإن كان بعضه أشد تحريما، ولا يختلف حكمهما في حق المسلم، لكن أهل الكتاب أقروا على دينهم مع أنه شرط عليهم أن لا يظهروا أعيادهم، بل أعياد الكتابيين أعظم كفرا؛ لأنهم يتخذونها دينا، بخلاف الذين يتخذونها لهوا ولعبا؛ لأن التعبد بما يسخط الله أعظم من اقتضاء الشهوات، ولهذا كان الشرك أعظم إثما من الزنا، وكان جهاد أهل الكتاب أفضل من غيرهم، وكان من قتله أهل الكتاب له أجر شهيدين.
الوجه الثالث: أن هذا الحديث وغيره قد دل على أنه كان للناس أعياد يجتمعون فيها في الجاهلية، ومعلوم أنه بمبعث إمام المتقين صلى الله عليه وسلم محا الله ذلك عنه، فلم يبق شيء من ذلك، فلولا نهيه ومنعه لما ترك الناس ذلك مع قيام المقتضي لفعلها من جهة الطبيعة أن المانع قوي لما درست تلك الأعياد.
الوجه الرابع: ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال [أبو بكر] أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذلك يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا" وفي رواية: دعهما يا أبا بكر .
فقوله: إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم؛ كقوله -تعالى- وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا لأن اللام تورث الاختصاص، فلا نشركهم في عيدهم كما لا نشركهم في شرعتهم، ولا ندعهم يشركوننا.
وقوله: "هذا عيدنا" يقتضي حصر عيدنا في هذا، فليس لنا عيد سواه، وكذلك قوله: وإن عيدنا هذا اليوم، فإن التعريف بالإضافة واللام يقتضي الاستغراق، فيكون جنس عيدنا منحصرا في جنس ذلك اليوم، كقوله: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" .
ومن هذا الباب: قوله صلى الله عليه وسلم: يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب رواه أبو داود والترمذي وصححه، فيدل على مفارقتنا لغيرنا في العيد، واختصاصنا بهذه الأيام الخمسة، وأيضا فإنه علل الرخصة باللعب بكونه يوم عيدنا، فدل على أنه لا يرخص فيه في عيد الكفار، فإنه لو ساغ ذلك لم يكن قوله: لكل قوم عيد فيه فائدة.
الوجه الخامس: أن أرض العرب ما زال فيها يهود ونصارى حتى أجلاهم عمر -رضي الله عنه- وكان اليهود بالمدينة كُثُرا في حياته -صلى الله عليه وسلم- وكذلك كان في اليمن يهود، ونصارى بنجران، والفرس بالبحرين، وكان لهم أعياد، والمقتضي لما يفعل في العيد من الأكل والشرب واللباس والزينة واللعب والراحة قائم في نفوس الناس، ثم من كان له خبرة بالسيرة يعلم أن المسلمين لم يكونوا يشاركونهم في شيء من أمرهم، ولا يغيرون لهم عادة في أعياد الكفار، بل ذلك اليوم عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعند المسلمين يوم لا يخصونه بشيء أصلا إلا ما قد اختلف فيه من مخالفتهم فيه كصومه، فلولا أنه كان من دين المسلمين الذي تلقوه عن نبيهم منع من ذلك وكف عنه لوجب أن يوجد من بعضهم فعل بعض ذلك، فدل على المنع منه ثم جرى الأمر على عهد الخلفاء الراشدين كما كان في عهده، حتى كان عمر ينهى عن الدخول عليهم يوم عيدهم، فكيف لو كان أحد يفعل كفعلهم، بل لما ظهر من بعض المسلمين اختصاص يوم عيدهم بصوم مخالفة لهم نهى الفقهاء أو كثير منهم عن ذلك لأجل ما فيه من تعظيم عيدهم، أفلا يستدل بهذا على أن المسلمين تلقوا عن نبيهم -صلى الله عليه وسلم- المنع من مشاركتهم في أعيادهم، وهذا بعد التأمل بين جدا.
الوجه السادس: ما رواه أبو هريرة عنه -صلى الله عنه وسلم- أنه قال: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه لمن بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد متفق عليه .
فذكر أن الجمعة لنا كما أن السبت لليهود والأحد للنصارى، واللام تقتضي الاختصاص، ثم هذا الكلام يقتضي الاقتسام، كما إذا قيل: هذه ثلاثة غلمان، هذا لي، وهذا لزيد، وهذا لعمرو، فإذا نحن شاركناهم في يوم السبت ويوم الأحد خالفنا هذا الحديث، هذا في العيد الأسبوعي فكيف في العيد الحولي؟!
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: بيد أنهم أوتوا الكتاب أي من أجل، كقوله: "أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش" والمعنى -والله أعلم- نحن الآخرون في الخلق السابقون في الحساب والدخول إلى الجنة، فأوتينا الكتاب من بعدهم، فهدينا لما اختلفوا فيه من العيد السابق للعيدين الآخرين، وصار عملنا الصالح قبل عملهم، فلما سبقناهم إلى الهدى والعمل الصالح جعلنا سابقين لهم في ثواب العمل الصالح، ومن قال: بيد ههنا بمعنى غير، فقد أبعد.
الوجه السابع: ما روي عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: "إنهما عيد للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهم" رواه أحمد والنسائي وصححه بعض الحفاظ وهذا نص في شرع مخالفتهم في عيدهم، وإن كان على طريق الاستحباب، وسنذكر حديث نهيه عن صوم يوم السبت وتعليل ذلك -أيضا- بمخالفتهم، ونذكر حكم صومه عند العلماء، وأنهم متفقون على شرع مخالفتهم في عيدهم، وإنما اختلفوا: هل مخالفتهم بالصوم أو بالإهمال حتى لا يقصد بصوم ولا بفطر، أو يفرق بين العيد العربي والعيد العجمي؟ على ما سنذكره -إن شاء الله تعالى-.
وأما الإجماع والآثار فمن وجوه:
أحــدها: ما تقدم التنبيه عليه من أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية، يفعلون أعيادهم التي لهم والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس، ثم لم يكن على عهد السلف من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك، فلولا قيام المانع في نفوس الأمة كراهة ونهيا، وإلا لوقع ذلك كثيرا؛ إذ الفعل مع وجود مقتضيه وعدم منافيه واقع.
الثانــي: من شروط عمر -رضي الله عنه- التي اتفقت عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم: أن أهل الذمة لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وسموا الشعانين والباعوث، فإذا كانوا قد اتفقوا على منعهم من إظهارها، فكيف يسوغ للمسلمين فعلها مع كونه أشد؟
الوجه الثالث: ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني عن عمر أنه قال: "إياكم ورطانة الأعاجم! وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم!".
وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عمر: "لا تدخلوا على المشركين يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم" .
وعن ابن عمرو: "من بنى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم" رواه البيهقي بالسند الصحيح.
وعن عمر -رضي الله عنه-: "اجتنبوا أعداء الله في أعيادهم" .
وعن علي -رضي الله عنه- أنه كره موافقتهم في اسم العيد الذي ينفردون به فكيف بموافقتهم في العمل؟
وقد نص أحمد على معنى ما جاء عن عمر وعلي -رضي الله عنهما- من كراهة موافقتهم في اللغة والعيد، وتقدم قول القاضي: مسألة في المنع من حضور أعيادهم.
وقال الإمام أبو الحسن الآمدي المعروف بابن البغدادي في كتابه "عمدة الحاضر": "فصل: لا تجوز شهادة أعياد النصارى واليهود، نص عليه أحمد في رواية مهنا، واحتج بقوله: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره، نص عليه".
وقال الخلال في "جامعه": "باب في كراهة خروج المسلمين في أعياد المشركين" وذكر عن مهنا قال: "سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد، مثل طور يابور ودير أيوب وأشباهه، يشهده المسلمون.
قال: إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم، وإنما يشهدون السوق، فلا بأس".
وأما الرطانة وتسمية شهورهم بالأسماء العجمية، فقال حرب الكرماني: "باب تسمية الشهور بالفارسية، قلت لأحمد "فإن للفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف؟ فكره ذلك أشد الكراهة، وروى فيه عن مجاهد أنه كره أن يقال: آذرماه وذي ماه، قلت: فإن كان اسم رجل أسميه به؟ فكرهه، وكان ابن المبارك يكره إيزدان يُحلف به، وقال: لا آمن أن يكون أضيف إلى شيء يعبد، وكذلك الأسماء الفارسية، قال: وكذلك أسماء العرب كل شيء مضاف، قال: وسألت إسحاق، قلت: الرجل يتعلم شهور الروم والفرس؟ قال: كل اسم معروف في كلامهم فلا بأس.
فما قاله أحمد له وجهان:
أحدهما: إذا لم يعرف معنى الاسم جاز أن يكون معنى محرما، فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه؛ ولهذا كرهت الرقى العجمية بالعبرانية والسريانية أو غيرها؛ خوفا من أن يكون فيها معان لا تجوز، فإذا علم أن المعنى مكروه، فلا ريب في كراهته، وإن جهل معناه فأحمد كرهه، وكلام إسحاق يحتمل أنه لم يكرهه.
والوجه الثاني: كراهة أن يتعود الرجل النطق بغير العربية، فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون؛ ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون الدعاء والذكر بغير العربية، واختلف الفقهاء في أذكار الصلاة: هل تقال بغير العربية؟ وهي ثلاث درجات: أعلاها القرآن، ثم الذكر الواجب غير القرآن كالتحريمة والتسليم والتشهد عند من أوجبه، ثم الذكر غير الواجب من دعاء وتسبيح وتكبير وغير ذلك.
فالقرآن لا يقرأ بغير العربية سواء قدر عليها أو لا عند الجمهور، وهو الصواب الذي لا ريب فيه، بل قال غير واحد: يمتنع أن يترجم سورة أو ما يقوم به الإعجاز، واختلف أبو حنيفة وأصحابه في القادر على العربية.
وأما الأذكار الواجبة، فاختلف في منع ترجمة القرآن: هل تترجم للعاجز عن العربية وعن تعلمها؟ وفيه لأصحاب أحمد وجهان:
أشبههما بكلام أحمد أنه لا يترجم، وهو قول مالك وإسحاق.
والثاني يترجم وهو قول أبي يوسف ومحمد الشافعي.
وأما سائر الأذكار، فالمنصوص من الوجهين أنه لا يترجمها، ومتى فعل بطلت صلاته، وهو قول مالك وإسحاق وبعض أصحاب الشافعي، والمنصوص عنه أنه يكره بغير العربية ولا يبطل، ومن أصحابنا من قال له ذلك إذا لم يحسن العربية.
وحكم النطق بالعجمية في العبادات من الصلاة والقراءة والذكر والتلبية والتسمية على الذبيحة وفي العقود والفسوخ كالنكاح واللعان وغيره معروف.
وأما الخطاب بها من غير حاجة في أسماء الناس والشهور كالتواريخ وغير ذلك، فنهي عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب، وأما مع العلم به فكلام أحمد بين في كراهته أيضا، فإنه كره آذرماه ونحوه ومعناه ليس محرما، وأظنه سئل عن الدعاء بالفارسية فكرهه، وقال: لسان سوء، وهو قول مالك لنهي عمر عن رطانة الأعاجم وقال: "إنها خب".
وكره الشافعي لمن يعرف العربية أن يسمى بغيرها وأن يتكلم بها خالطا لها بالعجمية، وهذا الذي ذكرناه مأثور عن الصحابة.
روى ابن أبي شيبة قال: كتب عمر إلى أبي موسى: "أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن، فإنه عربي".
وفي حديث آخر عنه: "تعلموا العربية، فإنها من دينكم" .
وهذا الذي أمر به عمر من فقه العربية وفقه السنة يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله، وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية، فإنه يورث النفاق رواه السلفي بإسناد معروف، وهو يشبه كلام عمر وأما رفعه فموضع تبين، ونقل عن طائفة أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة، وبالجملة بعد الجملة فالكلمة بعد الكلمة أمرها قريب، وأكثر ما كانوا يفعلونه إذا كان المكلم أعجميا يريدون تقريب الفهم على المخاطب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص لما كساها النبي خميصة، وقال: يا أم خالد هذه سنا والسنا بالحبشية: الحسن.
وأما اعتياد الخطاب بغير العربية حتى يصير عادة، فلا ريب أنه مكروه، فإنه من التشبه بالأعاجم.
واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا، حتى يزيد به العقل والخلق والدين لمشابهته سلف الأمة، وأيضا فإن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بالعربية، ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية.
المنهج القويم في اختصار الصراط المستقيم
فصل الكلام على التشبه بالكفار في أعيادهم ولغتهم مع إيراد النصوص والإجماع |