مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #1  
قديم 14/09/2009, 04:43 PM
المنتدى الاستشاري المنتدى الاستشاري غير متواجد حالياً
المجلس العام
تاريخ التسجيل: 28/04/2003
المكان: المجلس العام
مشاركات: 2,104
ico8 على مائدة الإفطار(6) ذكريات أب مكلوم ؛ وعند الله تجتمع الخصوم .!





فكرة واعداد وتحرير : شـذى
كتابـة المقدمـة : القاضي
قطع الصوت : الهنوووف
تصميــم : عسيريه



المـقـدمـة

بقـلم : القاضي

كيف تكتبُ مقدمةً عنْ رجلٍ بحجمِ و هامةِ و مكانةِ الشيخِ الجليلِ عليٍّ ، أديبِ الفقهاءِ
و فقيهِ الأدباءِ. كان بين أظهرنا لكنّه سبق زمانه بعقود. كتبه و برامجه في الرادِّ و في
الرائي (بحسب ما كان يطلق عليهما الشيخ) تترجم له خير ترجمه. محدثكم يتجنب
الكتابة عن من يحبهم و يجلّهم و يعْظُمُ ذلك ، أي التجنب ، إنْ هم لحقوا بالرفيق الأعلى
و مرد ذلك لأنني لا أتمالك نفسي حين أذكرهم فيختلط حبري بدمعي و يعتصرني الألم
فأحار كم يحار الطفل الرضيع إذا بحث عن أمه فلم يجدها.

شهر رمضان له عبق و رائحة زكية عطرة و خلاله تصفوا النفوس و تسمو الأرواح
و ذلك لتشريف ربنا عز و جل له عن باقي شهور السنة، و كذا فعل شيخنا الجليل ،
نوّر الله ضريحه ، فكان أن خصّ هذا الشهر ببرنامج خاصٍ (على مائدة الإفطار) يعرض
في التلفاز يومياً عقب صلاة المغرب في مكة المكرمة. هذا البرنامج ذاع صيته و اشتهر
و ارتبط الناس به و بصاحبهِ أيما ارتباط . المثير للدهشة ، وهو ليس كذلك لمن عرف و تابع
الشيخ رحمه الله ، أن هذا البرنامج بأكمله كان يسجل خلال يومين فقط ، ثلاثون حلقة كاملة
تسجل واحدةً تلو الأخرى ، رحم الله شيخنا الجليل ما أشدّ عزمه على عظم تواضعه.

كنت أرى والديَّ رحمهما الله وهما يشاهدان الشيخ ، و أمثالهما كثر ، فلا تكاد تسمع شيئاً حولك
إلا صوت الشيخ و هو يعلق و ينصح و يشرح. شكّلَ الشيخُ و برنامجه ذاك بعداً آخر لرمضان ،
طعماً حسناً و رائحة زكية . يأتيك بعد بضع عشرة ساعة من الصيام ليخاطبك بكلام لا يمر بأذنك
إلا سريعاً ليستقر في قلبك و جنانك ، فالتصق وقت الإفطار بالشيخ و برنامجه و حين أعادت
قناة المجد بعض حلقاته قبل عامين أتت صور الذكريات تترى و امتلأت المآقي بالدموع.

إني لأنصح كل من يقرأ هذا الكلام أن يقتني كتب الشيخ ليقف بنفسه على هذه الثروة الأدبية
و المعرفية و التربوية ، و أحث بشكلٍ خاصٍّ بـ " حديث النفس" ثم بسلسلة ذكريات الشيخ
و تقع في ثمان مجلدات .

أختم بما قاله الدكتور أحمد السباعي عن الشيخ فقد كتب : ( أكاد لا أعرف قلماً معاصراً
ظلمته الأقلام ، و أديباً عقه الأدباء ، و محدثاً أغفله المحدثون ، و قمة تجاهلها المتسلقون ،
كمثل الطنطاوي ..)















* الرحلة السادسة *

ذكريات أب مكلوم ؛ وعند الله تجتمع الخصوم .!



ابنتي بنان رحمها الله, و هذه أول مرة اذكر فيها اسمها ؛ اذكره و الدّمع يملأ عيني ؛ و الخفقان يعصف بقلبي, اذكره
أول مرة بلساني و ما غاب عن ذهني لحظة و لا صورتها عن جناني ؛ أتنكرون عليّ أن أجد في كل مأتم مأتمها و في
كل خبر وفاة وفاتها؟ (ما سمعت بشاب من شبابنا استشهد في سبيل الله إلا تصورت أني أمه وأنه ولدي ، وأحسست
لفقده بمثل إحساس الأم الرؤوم لفقد ولدها البار.
) وإذا كان كل شجي يثير شجاه لأخيه أفلا يثير شجني لبنتي؟ إن كل
أب يحب أولاده و لكن ما رأيت لا والله ما رأيت من يحبّ بناته مثل حبي لبناتي ؛ ما صدقت إلى الآن و قد مرّ على
استشهادها أربع سنوات و نصف السنة و أنا لا اصدق بعقلي الباطن أنها ماتت أنني اغفل أحياناً فأظن إن رنّ جرس
الهاتف أنّها ستعلمني على عادتها بأنها بخير لأطمئنّ عليها تكلمني مستعجلة ترصف ألفاظها رصفاً مستعجلة دائماً كأنها
تحسّ أن الردى لن يبطئ عنها و أن هذا المجرم هذا النذل..هذا... يا أسفي, فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي
يطلق على مثله. ذلك لأنها لغة قوم لا يفقدون الشرف حتى عند الإجرام, إن في العربية كلمات النّذالة و الخسّة و الدناءة,
وأمثالها, و لكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدد الجارة بالمسدس حتى طرقت عليها الباب لتطمئنّ
فتفتح لها ثم اقتحم عليها على امرأة وحيدة في دارها فضربها ضرب الجبان و الجبان إذا ضرب أوجع أطلق عليها خمس
رصاصات تلقتها في صدرها و في وجهها ما هربت حتى تقع في ظهرها ؛ كأنّ فيها بقية من أعراق أجدادها الذين كانوا

يقولون :

و لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا *** و لكن على أقدامنا تقطر الدّما

ثم داس الـ ... لا ادري والله بم أصفه؟ إن قلت المجرم فمن المجرمين من فيه بقية من مـروءة تمنعه من أن يدوس بقدميه
النجستين على التي قتلها ظلماً ليتوثّق من موتها ربما كان في المجـرم ذرة من إنسانيـة تحجزه عن أن يخـوض في هذه
الدّماء الطاهرة التي أراقها و لكنه فعل ذلك كما أوصاه من بعث به لاغتيالها ؛ دعس عليها برجليـه ليتأكد من نجاح مهمته
قطع الله يديه و رجليه ؛ لا بل ادعه و ادع من بعث به لله لعذابه لانتقامه و لعـذاب الآخرة اشدّ من كل عذاب يخطـر علـى
قلوب البشر لقد كلمتها قبل الحادث بساعة واحدة قلت: أين عصام؟ قالت: خبروه بأنّ المجرمين يردون اغتياله و أبعدوه
عن البيت, قلت: فكيف تبقين وحدك؟ قالت: بابا لا تشغل بالك بي ؛ أنا بخير ثق والله يا بابا أنني بخير. إن الباب لا يفتح إلا
إن فتحته أنا و لا افتح إلا أن عرفت من الطّارق و سمعت صوته إن هنا تجهيزات كهربائية تضمن لي السّلامة و المسلّم
هو الله
ما خطر على بالها إن هذا الوحش هذا الشيطان سيهدد جارتها بمسدسه حتى تكلمها هي فتطمئنّ فتفتح لها الباب.

و مرت الساعة فقرع جرس الهاتف, و سمعت من يقول لي: كلّم وزارة الخارجية قلت: نعم فكلمني رجل أحسست انه يتلعثم
و يتردد كأنه كلّف بما تعجز عن الإدلاء به بلغاء الرجال بان يخبرني ؛ كيف يخبرني؟ و تردد و رأيته بعين خيالي كأنه يتلفت
يطلب منجى من هذا الموقف الذي وقّفوه فيه ثم قال : ما عندك احد اكلمه ؟ و كان عندي أخي فقلت لأخي : خذ اسمـع ما يقول
و سمع ما يقول, و رأيته قد ارتاع مما سمع و حار ماذا يقول لي, و كأني أحسست أن المخابرة من ألمانيا و انّه سيلقي عليّ خبراً
لا يسـرني و كنت أتوقع أن ينال عصاماً مكروه فسألته : هل أصاب عصاما شيء ؟ قال : لا و لكن .. قلت : و لكن ماذا ؟ عجّل
فانك بهـذا التردد كمن يبتر اليد التي تقرر بترها بالتدريج قطعة بعد قطعة ؛ فيكون الألم مضاعفاً أضعافاً فقل و خلّصني مهما
كان سوء الخبر قال: بنان ! قلت: ما لها؟ قال: و بسط يديه بسط اليائس الذي لم يبق في يده شيء وفهمت وأحسست كأنّ سكّيناً
قد غرس في قلبي
؛ و لكني تجلدتّ ؛ و قلت هادئاً هدوءاً ظاهرياً , والنار تضرم في صدري: حدّثني بالتفصيل بكل ما سمعت
فحدثني و ثقوا أنني لا أستطيع مهما أوتيت من طلاقة اللسان, و من نفاذ البيان , أن اصف لكم ماذا فعل بي هذا الذي سمعت.

و انتشر في الناس الخبر و لمست فيهم العطف و الحب و المواساة ... و وصلتني برقيات تواسيني و أنها لمنة ممن بعث بها و
ممن كتب يعجز لسان الشكر عن وفاء حقها و لكني سكت فلم اشكرها و لم اذكرها ؛ لأن المصيبة عقلت لساني و هدت أركاني
و أضاعت عليّ سبيل الفكر, فعذراً و شكراً لأصحاب البرقيات و الرسائل ... كنت احسبني جلداً صبوراً اثبت للأحداث و
أواجه المصائب ؛ فرأيت أني لست في شيء من الجلادة و لا من الصبر و لا من الثبات... صحيح انه:

و لا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة *** يواسيك أو يسليك أو يتوجع

و لكن لا مواساة في الموت , و السلو مخدر أثره سريع الزوال و لكن لا ينفع شيئاً و أغلقت عليّ بابي و كلما
سألوا عني ابتغى أهلي المعاذير ؛ يصرفونهم عن المجيء ؛ و مجيئهم فضل منهم ؛ و لكني لم أكن أستطيع أن أتكلم في الموضوع
لم أرد أن تكــون مصيبتي مضغة الأهواء ؛ و لا مجالاً لإظهار البيان ؛ إنها مصيبتي وحدي فدعوني أتجرعها وحدي على مهـل .
ثم فتحت بابي, و جعلت اكلم من جاءني ؛ جاءني كثير ممن اعرفه و يعرفني و ممن يعرفنـي و لا اعرفـه و جعلـت أتكلم فـي كل
موضوع إلا الموضوع الذي جاؤوا من اجله استبقيت أحزاني لي, و حدثتهـم كل حديث حتـى لقد أوردت نكتاً و نوادر ! أتحسبون
ذلك من شذوذ الأدباء ؟ أم من المخالفات التي يريد أصحابها أن يعرفوا بها ؟ لا والله و لكن الأمر ما قلت لكم كنت اضحك و
اضحك القوم و قلبي و كل خلية في جسدي تبكي . فما كل ضاحك مسرور :

لا تحسبوا أن رقصي بينكم طرباً *** فالطير يرقص مذبوحاً من الألمِ

إني لأتصوّر الآن حياتها كلها مرحلة مرحلة ؛ و يوماً يوماً تمر أمامي متعاقبة كأنها شريط أراه بعيني لقد ذكرت مولدها و كانت
ثانية بناتي و لقد كنت أتمنى أن يكون بكري ذكراً و قد أعددت له أحلى الأسماء ما خطـر على بالـي أن يكـون أنثى و سميتـها
عنان و ولدت بعدها بسنتين بنان اللهم ارحمها و هذه أول مرة أو الثانية التي أقول فيها اللهم ارحمها و أني لأرجو الرحمة
لها و لكني لا أستطيع أن أتصور موتها .

لما صار عمرها أربع سنوات و نصف السنة أصرت على أن تذهب إلى المدرسة مع أختها ؛ فسعيت أن تقبل من غير تسجل
رسمياً فلما كان يوم الامتحان و وزعت علاماتها المدرسية و قد كتب لها ظاهرياً لتسر بها و لم تسجل عليها قلت لها :
ماذا حدث؟ فقفزت مبتهجة مسرورة و قالت بلهجتها السريعة الكلمات ؛ المتلاحقة الألفاظ: بابا كلها أصفار أصفار أصفار !
تحسب الأصفار هي خير ما ينال و ماذا يهم الآن بعدما فارقت الدنيا أكانت أصفاراً أم كانت عشرات ؛ و ماذا ينفع المسافر
الذي ودع بيته إلى غير عودة ؛ و خلف متاعه و أثاثه ؛ ماذا ينفع طراز فرش البيت و لونه وشكله .


من كتاب - ( ذكريات ) الجزء السادس .





لمن لا يعرف قصة اغتيال بنان علي الطنطاوي

بنان هي زوجة الداعية و الناشط الإسلامي عصام عطار والمطلوب من قبل حكومة حافظ الأسد في ذلك
الوقت فرت هي وزوجها هربا من البطش في سوريا إلى ألمانيا وبعد 17 عشر عاماً من التشرد والغربة
تم اغتيال بنان في مدينة آخن الألمانية بعد أن غادر زوجها المنزل حين بلغه أن المجرمين يتربصون
به فخرج إلى مكان مجهول تاركاً زوجته وأبنائه في المنزل ظناً منه أن لا خطر عليهما وعلى حين غرة
اقتحم المجرمون شقة جارتها وأجبروها على أن تحدثها في الهاتف أنها قادمة لزيارتها حينها اطمأنت
بنان ففتحت لها الباب لكنهم باغتوها بخمس رصاصات : اثنتان في الرأس ؛ واثنتان في الصدر ؛
وواحدة تحت الإبط .



من أحزان الشيخ

لم أعد أجد في الحياة ما يغريني بها ؛ و يرغبني فيها .. وماذا في الحياة كل لذة فيها مغشاة بألم ؛
فيها الربيع الجميل ؛ و لكن فيه بذور الصيف المحرق ؛ و الشتاء القاسي ؛ و فيها الحب ؛ ولكن
لذة الوصال مشوبة بمخافة الهجر . و فيها الصحة و الشباب ؛ و لكنهما يحملان الهرم و المرض.
فيها الغنى ؛ و لكني ما عرفته و ما أحسبني سأعرفه أبداً . لقد كرهت الحياة ؛ و زادها كراهة لي
هؤلاء الناس ؛ فلم يفهمني أحد و لم أفهم أحدا. إن حزنت فأعرضت عنهم مشتغلا بأحزاني قالوا
متكبر ؛ و إن غضبت للحق فنازعت فيه قالوا شرس ؛ و إن وصفت الحب الذي أشعر به كما
يشعرون قالوا فاسق ؛ و إن قلت كلمة الدين قالوا جامد ؛ و إن نطقت بمنطق العقل قالوا زنديق ؛
فما العمل ؟ إليك يا رب المشتكى .








6-الظــاهـرة .
رئيس تحرير مجلة أقلام زرقاء



من منا لا يذكـر ذلك الشيخ الشامي وبرنامجـه (على مائدة الإفطار) وهو ينظـر إلى ساعتـه بيـن وقـت
وآخر خشيـت أن يطيـل و مشاهديـه يرجـون أن تتوقـف تلك الساعة ليستمر الشيخ الأديب في نثر ما
وهبه الله من علم بأسلوبه الشائـق ولغته الراقية ..!! كنت أراه شيخا حين يبحر في الشريعة وعلومها
وأديبا حين يداعب مستمعيه بأجمل اللآلئ التي سكنت بحرًا لم يُعرف له ساحل .. والمربي حين يرمي
سنارته يصلح ما تصدع من قيم وعادات مجتمعنا الإسلامي .. بل كنت أراه خطيبًا مفوهـًا لا تغيب عنه
حجه ولا تفحمه لجة .. كان القاضي و الصحفي والمذيع بل هو نهر عذب يسقي كل أرض يطؤها حتى
ترتوي جذورها ..!! لازلت أذكر ( على مائدة الإفطار ) وحديثه السهل الممتنع الذي لا تكلف فيه ولكنه
عسير لا يمتطيه إلا من أوتي حظـًا من العلم .. فتجد المتلقي يضحك ملء فيه وتارة تجده حزينـًا يساير
الشيخ في مشاعـره .. مائدة غنية بالأمثال والحكم والتجارب والقصـص أجبرت كل طبقات المجتمع أن
تكون على ضيافة مائدته فبساطة الطبع و سماحة الخلق وعلو المقصد منحت الشيخ قبولا أجبر المتلقي
أن يتسمر حتى ينهي ما بدأ .! رحمه الله فلقـد غربت شمس عالم جليل ومربي فاضل وقاضي منصف
ومذيع ماهـر وأديـب لم يبخـل بثروته التي عكـف رجليـه يجمعهـا دهرًا حتـى غزا مفرقـه الشيب
..
ثروة استمتع بها كل من سمع صوته أو مر على حرفه .. ومثله يفقد وعلى مثله يحزن ..
فرحمك الله يا شيخنا الجليل وجعل الفردوس الأعلى مثواك ..!!







وفي الختام انتظرونا في رحلتنا الأخيرة
والتي سنسدل من خلالها الستار على هذه السلسلة الرمضانية الطنطاوية

مشرفوا واستشاريوا المجلس العام
يتمنون لكم صياماً مقبولاً وافطاراً شهياً