مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #1  
قديم 14/07/2009, 11:28 PM
سامي صعب يتكرر سامي صعب يتكرر غير متواجد حالياً
زعيــم نشيــط
تاريخ التسجيل: 28/03/2008
مشاركات: 809
Lightbulb تفسير سورة القصص (3)

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ‏}‏ من ابتداء السبب الموجب لهربه، إلى أن وصل إليه ‏{‏قَالَ‏}‏ مسكنا روعه، جابرًا قلبه‏:‏ ‏{‏لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ ليذهب خوفك وروعك، فإن اللّه نجاك منهم، حيث وصلت إلى هذا المحل، الذي ليس لهم عليه سلطان‏.‏
‏{‏قَالَتْ إِحْدَاهُمَا‏}‏ أي‏:‏ إحدى ابنتيه ‏{‏يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ‏}‏ أي‏:‏ اجعله أجيرا عندك، يرعى الغنم ويسقيها، ‏{‏إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ‏}‏ أي‏:‏ إن موسى أولى من استؤجر، فإنه جمع القوة والأمانة، وخير أجير استؤجر، من جمعهما، أي‏:‏ القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة، وهذان الوصفان، ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملا، بإجارة أو غيرها‏.‏
فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما، وأما باجتماعهما، فإن العمل يتم ويكمل، وإنما قالت ذلك، لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه، ما عرفت به قوته، وشاهدت من أمانته وديانته، وأنه رحمهما في حالة لا يرجى نفعهما، وإنما قصده ‏[‏بذلك‏}‏ وجه اللّه تعالى‏.‏
‏{‏قَالَ‏}‏ صاحب مدين لموسى ‏{‏إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي‏}‏ أي تصير أجيرا عندي ‏{‏ثَمَانِيَ حِجَجٍ‏}‏ أي‏:‏ ثماني سنين‏.‏ ‏{‏فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ‏}‏ تبرع منك، لا شيء واجب عليك‏.‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ‏}‏ فأحتم عشر السنين، أو ما أريد أن أستأجرك لأكلفك أعمالا شاقة، وإنما استأجرك لعمل سهل يسير لا مشقة فيه ‏{‏سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ فرغبه في سهولة العمل، وفي حسن المعاملة، وهذا يدل على أن الرجل الصالح، ينبغي له أن يحسن خلقه مهما أمكنه، وأن الذي يطلب منه، أبلغ من غيره‏.‏
فـ ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى عليه السلام ـمجيبا له فيما طلبه منهـ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ‏}‏ أي‏:‏ هذا الشرط، الذي أنت ذكرت، رضيت به، وقد تم فيما بيني وبينك‏.‏ ‏{‏أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ‏}‏ سواء قضيت الثماني الواجبة، أم تبرعت بالزائد عليها ‏{‏وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ‏}‏ حافظ يراقبنا، ويعلم ما تعاقدنا عليه‏.‏
وهذا الرجل، أبو المرأتين، صاحب مدين، ليس بشعيب النبي المعروف، كما اشتهر عند كثير من الناس، فإن هذا، قول لم يدل عليه دليل، وغاية ما يكون، أن شعيبًا عليه السلام، قد كانت بلده مدين، وهذه القضية جرت في مدين، فأين الملازمة بين الأمرين‏؟‏
وأيضا، فإنه غير معلوم أن موسى أدرك زمان شعيب، فكيف بشخصه‏؟‏‏"‏ ولو كان ذلك الرجل شعيبا، لذكره اللّه تعالى، ولسمته المرأتان، وأيضا فإن شعيبا عليه الصلاة والسلام، قد أهلك اللّه قومه بتكذيبهم إياه، ولم يبق إلا من آمن به، وقد أعاذ اللّه المؤمنين أن يرضوا لبنتي نبيهم، بمنعهما عن الماء، وصد ماشيتهما، حتى يأتيهما رجل غريب، فيحسن إليهما، ويسقي ماشيتهما، وما كان شعيب، ليرضى أن يرعى موسى عنده ويكون خادما له، وهو أفضل منه وأعلى درجة، والله أعلم، ‏[‏إلا أن يقال‏:‏ هذا قبل نبوة موسى فلا منافاة وعلى كل حال لا يعتمد على أنه شعيب النبي بغير نقل صحيح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏}‏
‏{‏فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ‏}‏ يحتمل أنه قضى الأجل الواجب، أو الزائد عليه، كما هو الظن بموسى ووفائه، اشتاق إلى الوصول إلى أهله ووالدته وعشيرته، ووطنه، وعلم من طول المدة، أنهم قد تناسوا ما صدر منه‏.‏ ‏{‏سَارَ بِأَهْلِهِ‏}‏ قاصدا مصر، ‏{‏آنَسَ‏}‏ أي‏:‏ أبصر ‏{‏مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ‏}‏ وكان قد أصابهم البرد، وتاهوا الطريق‏.‏
‏[‏30‏]‏ فلما أتاها نودي ‏{‏يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ فأخبر بألوهيته وربوبيته، ويلزم من ذلك، أن يأمره بعبادته، وتألهه، كما صرح به في الآية الأخرى ‏{‏فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}‏
‏{‏وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ‏}‏ فألقاها ‏{‏فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ‏}‏ تسعى سعيا شديدا، ولها سورة مُهِيلة ‏{‏كَأَنَّهَا جَانٌّ‏}‏ ذَكَرُ الحيات العظيم، ‏{‏وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ‏}‏ أي‏:‏ يرجع، لاستيلاء الروع على قلبه، فقال اللّه له‏:‏ ‏{‏يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ‏}‏ وهذا أبلغ ما يكون في التأمين، وعدم الخوف‏.‏
فإن قوله‏:‏ ‏{‏أَقْبِلْ‏}‏ يقتضي الأمر بإقباله، ويجب عليه الامتثال، ولكن قد يكون إقباله، وهو لم يزل في الأمر المخوف، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَا تَخَفْ‏}‏ أمر له بشيئين، إقباله، وأن لا يكون في قلبه خوف، ولكن يبقى احتمال، وهو أنه قد يقبل وهو غير خائف، ولكن لا تحصل له الوقاية والأمن من المكروه، فقال ‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ‏}‏ فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه، فأقبل موسى عليه السلام غير خائف ولا مرعوب، بل مطمئنا، واثقا بخبر ربه، قد ازداد إيمانه، وتم يقينه، فهذه آية، أراه اللّه إياها قبل ذهابه إلى فرعون، ليكون على يقين تام، فيكون أجرأ له، وأقوى وأصلب‏.‏
ثم أراه الآية الأخرى فقال‏:‏ ‏{‏اسْلُكْ يَدَكَ‏}‏ أي‏:‏ أدخلها ‏{‏فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ‏}‏ فسلكها وأخرجها، كما ذكر اللّه تعالى‏.‏
‏{‏وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ‏}‏ أي ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك يزول عنك الرهب والخوف‏.‏ ‏{‏فَذَانِكَ‏}‏ انقلاب العصا حية، وخروج اليد بيضاء من غير سوء ‏{‏بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ أي‏:‏ حجتان قاطعتان من اللّه، ‏{‏إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ‏}‏ فلا يكفيهم مجرد الإنذار وأمر الرسول إياهم، بل لا بد من الآيات الباهرة، إن نفعت‏.‏
فـ ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى عليه السلام‏.‏
معتذرا من ربه، وسائلا له المعونة على ما حمله، وذاكرا له الموانع التي فيه، ليزيل ربه ما يحذره منها‏.‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا‏}‏ أي‏:‏ ‏{‏فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا‏}‏ أي‏:‏ معاونا ومساعدا ‏{‏يُصَدِّقُنِي‏}‏ فإنه مع تضافر الأخبار يقوى الحق فأجابه اللّه إلى سؤاله فقال‏:‏ ‏{‏سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ‏}‏ أي‏:‏ نعاونك به ونقويك‏.‏
ثم أزال عنه محذور القتل، فقال‏:‏ ‏{‏وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا‏}‏ أي‏:‏ تسلطا، وتمكنا من الدعوة، بالحجة، والهيبة الإلهية من عدوهما لهما، ‏{‏فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا‏}‏ وذلك بسبب آياتنا، وما دلت عليه من الحق، وما أزعجت به من باشرها ونظر إليها، فهي التي بها حصل لكما السلطان، واندفع بها عنكم، كيد عدوكم وصارت لكم أبلغ من الجنود، أولي الْعَدَدِ والْعُدَدِ‏.‏
‏{‏أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ‏}‏ وهذا وعد لموسى في ذلك الوقت، وهو وحده فريد، وقد رجع إلى بلده، بعد ما كان شريدا، فلم تزل الأحوال تتطور، والأمور تنتقل، حتى أنجز الله له موعوده، ومكنه من العباد والبلاد، وصار له ولأتباعه، الغلبة والظهور‏.‏
فذهب موسى برسالة ربه ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ‏}‏ واضحات الدلالة على ما قال لهم، ليس فيها قصور ولا خفاء‏.‏ ‏{‏قَالُوا‏}‏ على وجه الظلم والعلو والعناد ‏{‏مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى‏}‏ كما قال فرعون في تلك الحالة التي ظهر فيها الحق، واستعل على الباطل، واضمحل الباطل، وخضع له الرؤساء العارفون حقائق الأمور ‏{‏إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ‏}‏ هذا، وهو الذكي غير الزكي الذي بلغ من المكر والخداع والكيد ما قصه اللّه علينا وقد علم ‏{‏مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ولكن الشقاء غالب‏.‏
‏{‏وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ‏}‏ وقد كذبوا في ذلك، فإن اللّه أرسل يوسف عليه السلام قبل موسى، كما قال تعالى ‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ‏}‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى‏}‏ حين زعموا أن الذي جاءهم به سحر وضلال، وأن ما هم عليه هو الهدى‏:‏ ‏{‏رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ‏}‏ أي‏:‏ إذا لم تفد المقابلة معكم، وتبيين الآيات البينات، وأبيتم إلا التمادي في غيكم واللجاج على كفركم، فاللّه تعالى العالم بالمهتدي وغيره، ومن تكون له عاقبة الدار، نحن أم أنتم ‏{‏إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ‏}‏ فصار عاقبة الدار لموسى وأتباعه، والفلاح والفوز، وصار لأولئك، الخسار وسوء العاقبة والهلاك‏.‏


تفسير السعدي (تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن)

حسبي الله ونعم الوكيل
اضافة رد مع اقتباس