مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #4  
قديم 13/03/2004, 10:22 AM
الصورة الرمزية الخاصة بـ srabالهلال
srabالهلال srabالهلال غير متواجد حالياً
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 07/12/2002
المكان: السعودية - البديعه
مشاركات: 2,602
اخي عاشق &&& التمياط جزاك الله خير اسمح لي بالمشاركة

نعيمالجنة

الجنة... تلك الحقيقة العظمى التي لها يعمل المؤمنون، وفيها يتنافس المتنافسون، وهي الأمل الأكبر، إن لم نقل الأمل الأوحد الذي يعيش له وعليه المسلمون الصادقون!. لمَ. لا؟ وهي وعد الله. ولا يخلف الله وعده. لم. لا؟ وفيها ما لا عين رأت. ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. بل. لمَ لا؟ وقد أسهروا ليلهم وأظمأوا نهارهم، فصبروا على الطاعات صبرهم عن المعاصي لعلمهم أنها قد حفت بالمكاره، فجاهدوا أنفسهم وألجموها وألزموها تشوقاً لوعد الله: "ولا يخلف الله وعده". لم لا، وفيها يرون ربهم تعالى ويتنعَّمون بلذة النظر إلى وجهه. فما أحيلاها من ساعة حين يزفون إليها في موكب ملائكي عظيم بهيج يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ليروا البشرى في جنات النعيم مع النبيين الذين آمنوا بهم وبدعوتهم وصدقوهم ونصروهم وصبروا معهم على أذى الكافرين المتسلطين، حتى جاءهم نصر الله في الدنيا، وصدقهم الله وعده في الآخرة. ﴿فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً﴾ وإنما يتشوق المرء لما يعرفه، ولذا فقد جاء ذكر الجنة ونعيمها على نحو من التفصيل يجعل المؤمنين أشد تشوقاً لها وأكثر تضحية في سبيلها: "ألا إن سلعة الله غالية. ألا إن سلعة الله الجنة" فالمؤمن يجتنب ما حرمه الله تعالى ورسوله r خوفاً من نار وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين، كما أنه يخضع ويمتثل لأوامر الله عز وجل ورسوله r طمعاً في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. إنها الجنة التي لا يؤثر أحد بها أحداً كائناً من كان! فنعيمها هو النعيم، ومجرد الحرمان منها هو العذاب الأليم. بل إن النبي r ليصف لنا هذه الجنة ونعيمها في عبارة معجزة وبليغة رغم إيجازها، حيث يقول: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" وهكذا في بلاغة معجزة، يختصر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جنة بل جنات عرضها السماوات والأرض، فكل ما رأت عين من لدن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها من نعيم هو دون نعيم الجنة، وكذا ما سمعته الآذان كلها، ليس فقط بل ومهما أطلق الخلق كل الخلق كل خيالاتهم من أعنة التصور والتخيل، ومهما اشتهت أنفسهم من نعيم، فهو دون نعيم الجنة الذي ينتظر المتقين!!!. ولقد كان هذا الوصف "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" كان هذا الوصف كافياً، ولكن الله اللطيف الخبير، يعلم طبيعة من خلق وأنه لا يصبر حتى يعرف عن الجنة المزيد، فوصفها سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وقرآنه العظيم وصفاً يجليها للسامع حتى كأنه يراها بعينه: ﴿لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل﴾. فإلى طائفة من المشاهد التي وصف الله عز وجل فيها الجنة ونعيمها عسى أن يشمر العقلاء عن سواعدهم، وينفضوا عن أنفسهم غبار هذه الدنيا الزائفة الزائلة: ﴿وما عند الله خير وأبقى﴾.
المشهد الأول
قال تعالى: ﴿كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور﴾ )آل عمران) إنها النهاية والبداية في آن معاً، حيث تنتهي الحياة الدنيا الفانية، لتبدأ الحياة الأخرى الباقية، وبوقوع الحقيقة المذهلة تبدأ الحقيقة الهائلة! بوقوع الموت تبدأ الحياة الآخرة، فـ﴿كل نفس ذائقة الموت﴾، لكن الأمر ليس كما يدعي الكافرون، أي ليس موتاً ولا شيء بعده! ﴿وإنما توفون أجوركم يوم القيامة﴾ وقد سبق تفصيل ذلك وبيانه، سبق التأكيد على ضرورة البعث والحاجة الملحة إليه نقلاً وعقلاً لئلا يستوي المحسن والمسيء ولا الحسن والقبيح وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم ببلاغته المعهودة وأسلوبه البياني المعجز:﴿وإنما توفون أجوركم يوم القيامة﴾ وهذا هو منتهى العدل، أن يوفى كل عامل أجره على حسب عمله:﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره﴾
إنه حساب دقيق، وحساب عسير، يحاسب على مثقال الذرة بل وأدنى من الذرة! ولمَ. لا؟ أَلمْ يرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين؟ ألم ينزل الله الكتب التي توضح منهجه سبحانه للناس وتفصل لهم طريق الخير والشر وتبين لهم الحلال والحرام؟ فما عذر الكافرين إذن؟ ولم لا يكون الحساب دقيقاً وعسيراً"؟. وفي لمحة خاطفة. في عبارة واحدة لا أكثر، يختصر التعبير القرآني المسافات في وصف النار والجنة بكل ما في الأولى من عذاب وجحيم، وبكل ما في الثانية من أمن ونعيم، دون أن يذكر آية تفاصيل عن هذا أو ذاك، إنها مجرد إشارة "والعاقل تكفيه الإشارة"! فمجرد الزحزحة عن النار، ودخول الجنة فوز عظيم، وهذه إشارة بليغة كافية لتصوير أهوال النار وجحيمها، ووصف أحوال الجنة ونعيمها، فحين يخير شخص ما بين نار وجنة، فلا شك أنه سيختار الجنة أين كان موقعه فيها، وسينأى بنفسه عن النار دون الخوض في تفاصيل جحيمها، إنه خطاب للعقل، وإشارة للعقلاء: "وما الحياة الدنيا إلى متاع الغرور"!.
المشهد الثاني
قال تعالى: ﴿وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل، وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون﴾ البقرة/25. إذا تأمل المؤمن هذه الآية الكريمة وهو في حياته الأولى وجد فيها عزاءً لنفسه الصابرة وكبحا لجماح ما قد يكون من شهواتها ونزواتها، خاصة حين يكون صاحبها مبتلى بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، فلا تكاد نفسه تحاول الزيغ به هنا أو هناك حتى يقرأ هذه الآية الكريمة. فإذا هي برد وسلام على نفسه فتورثها السكينة وتغرس فيها الطمأنينة لوعد الله ﴿وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم جنات﴾ وإذا بها تصبر على أضعاف ما تعاني من حرمان أو تنكيل في سبيل: ﴿جنات تجري من تحتها الأنهار﴾، تتنوع وتتعدد فيها صنوف النعيم وألوانه حتى تشتبه على أصحابها فـ﴿كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً﴾ فالشكل مؤتلف، ولكن المذاق مختلف، بل إن شكلها يشابه أختها التي كان في الدنيا يراها ولا يقدر عليها فيصبر إيماناً واحتساباً، فليهدأ قلب المؤمن الذي قد لا يجد في الدنيا غير الكفاف، وليداوم على الصبر والقناعة والعفاف احتساباً وتحسباً ليوم يرزق فيه كل هذا النعيم ما صدق إيمانه وقويت عزيمته. أما أنتم. يا من ملأتم النواصي والمنتزهات بحثاً عن لحم حرام خسيس رخيص، وجرياً وراء متعة زائلة تخلف حسرة دائمة في الدنيا والآخرة! لم ذاك وقد أحل الله لكم زواجاً طيباً طاهراً مباركاً، فيه السكن والمودة والرحمة، وبه تقر عيونكم وتسعدون وتستقر حياتكم؟!.كأني أسمع صوتاً يتذرع لصاحبه بأن الزواج قد صار مكلفاً وأن الناس قد صاروا يغالون في بناتهم ولا يبالون بنا!. ولكن هل يصلح هذا مبرراً فضلاً عن أن يكون عذراً لاستباحة أعراض الناس؟ ثم إذا افترضنا عدم قدرة البعض على الزواج لهذه الأسباب أو لغيرها، فأين هم من خشيتهم لله عز وجل التي تحول بينهم وبين معاصيه سبحانه؟ بل أين هم من جنة عرضها السماوات والأرض، لهم فيها نعيم أبدي مقيم ﴿ولهم فيها أزواج مطهرة﴾ أزواج من الحور العين، اللاتي لو أطلت إحداهن على الدنيا لأنارتها، وكلما أتاها زوجها وجدها بكراً! إنهن حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، حور مقصورات في الخيام، ليس لغير أزواجهن فيهن حق في شيء ولا في نظرة، ولا هن يتطلعن لغير أزواجهن فهن قاصرات الطرف عين! وكل هذا النعيم مع هؤلاء الحور العين، هو نعيم خالد أبدي، لا يهدده شبح الفراق بموت أو البعد بعمل، إنها الجنة لا كد فيها ولا نصب: ﴿وهم فيها خالدون﴾. ما سبق بيانه. هو للمؤمن الذي يتدبر هذه الآية الكريمة في حياته، أما إذا جالت بخاطره يوم البعث والنشور، وهو يموج مع الناس في موقف الحشر العظيم، فالأمر عندئذٍ يختلف! إنها البشرى التي لو كان بعد هذا اليوم موت لمات صاحبها فرحاً: ﴿وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار﴾.
المشهد الثالث
قال تعالى: ﴿فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون. إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون، هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون، لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون، سلام قولاً من رب رحيم. وامتازوا اليوم أيها المجرمون﴾ يس 54/59.ما زلنا مع اليوم الآخر. وتأكيد إلهي بألا تظلم نفس شيئاً وألا تجزى كل نفس إلا بما عملت. وهذا هو العدل، بل ليس العدل أكثر من ذلك، فماذا يضيرك في أن تحاسب على ما كسبت يداك؟ بل هل تجد أنت أيها الإنسان حرجاً من أن تحاسب من تلي أمرهم على حسب أعمالهم، فتثيب هذا جزاء إحسانه، وتعاقب ذاك جزاء إساءته؟ فإذا كنت أنت –أيها الإنسان- المحدود قدرة وعلماً وحكمةً، تأبى إلا الثواب والعقاب كمنهج تربوي عادل، فلم –ولله المثل الأعلى- تنكر ذلك على الخالق سبحانه؟!. عموماً. إن إقرارك أو إنكارك لن يغير من الأمر شيئاً إلا أن تفوز أنت أو تخسر، أما عجلة الحياة فلن تتوقف، و"إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون"... في شغل بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم، وقيل في شغل عما فيه أهل النار من العذاب، وهم بشغلهم هذا معجبون فرحون، وليسوا في ذلك وحدهم، بل "هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون لهم فيها فاكهة"... ماء وخضرة ووجه حسن، بل ووجه أحسن، وأحسن ما في هذا الأحسن هو أنه دائم وأبدي، لا يخاف أصحابه عنه تولياً، ولا يترقبون أن يزولا، وأنه لا لغو فيه ولا تأثيم. بل "ولهم ما يدعون"... "فمهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ"، وأعظم من ذلك كله حين ينادون: "سلام قولاً من رب رحيم"، أما أنتم أيها المكذبون الضالون، الجاحدون الكافرون، فلكم شأن آخر في قعر الجحيم: "وامتازوا اليوم أيها المجرمون"!!!.
المشهد الرابع

قال تعالى: ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون﴾ الأحقاف 13-14. ألا إن سلعة "الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة.." ولكل سلعة ثمن، وأما الجنة فثمنها غال جداً: ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة﴾. والجنة تحتاج إلى كفاح وجهاد. بل تحتاج لبذل أقصى الجهد: "ألا هل مشمر إلى الجنة! فإن الجنة لا عِدْل لها، هي ورب الكعبة نور كلها يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سلامة، وفاكهة خضرة، وخير ونعمة، في محلة عالية بهية" ولما كان المشتري هو الله عز وجل، وكانت هذه هي السلعة، لزم أن يكون البائع شريفاً، فهل نجد أشرف من ﴿الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا﴾؟ كلا "فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها" .... وهذا هو النعيم الحقيقي. نعيم لا يتحول عنه أصحابه ولا يزول هو عنهم، فهو أعظم نعيم وإن قل، فكيف به إذا كان في جنة بل جنات عرضها السماوات والأرض، يملك أقل المؤمنين فيها حيث يمتد بصره! ملأى بصنوف النعيم، بل إن نعيمها فوق الحصر، ولا يدركه وصف، "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"! وهو مع ذلك كله خالد أبدي باق لا يفنى "ولذلك فليعمل العاملون" بل إنهم فازوا بهذا النعيم "جزاء بما كانوا يعملون".فالجزاء من جنس العمل. وهذا مقتضى العقل، ومنتهى العدل، فهؤلاء الذين قالوا: ربنا الله، غير مكتفين بترديد هذا القول، لأن القول المجرد عن العمل لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا ينفع صاحبه في كثير أو قليل. بل لا بد بعده من الاستقامة على منهج الله عز وجل لا على أي منهج آخر سواه، لأن الله سبحانه هو صاحب الخلق، ومن ثم فهو وحده صاحب الأمر –سبحانه- ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين".والاستقامة على منهج الله تعالى هي الأمتثال لأوامره وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك ما نهيا عنه، أما أن يزعم أقوام الإيمان وصحائفهم خالية من العمل بمقتضى هذا الإيمان، أو ممتلئة بأعمال تخالف المنهج الإلهي في التشريع ، فإنما "أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفاه حسابه. والله سريع الحساب". وخلاصة القول. إن الجنة تحتاج إلى إيمان صادق وعمل صالح: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".
المشهد الخامس
قال تعالى: ﴿مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم﴾محمد/15.هذا النعيم كله مجرد مثل للتقريب، أما الحقيقة الكاملة فهي شيء آخر، لم تر عين مثله، ولم تسمع أذن بنظيره. بل إنه ليستحيل على الخيال تصوره. ففي الجنة أنهار من خمر، وفيها أنهار من عسل، وفيها من كل الثمرات، وفيها مغفرة من الله ورضوان، "وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". وقد يقول قائل: لم التركيز على هذه الجوانب المادية من مطعم ومشرب ونساء في جنة الخلد؟ وهل المؤمنون قوم تستهويهم هذه المغريات التي عزفوا عنها في الدنيا؟ بل قد قيل مثل ذلك بالفعل!. ولذا نقول: أليس من العدل أن يعوضوا في الآخرة ما حرموا أنفسهم منه، وحبسوا جوارحهم عنه طاعة لله رب العالمين؟ أم هو حرمان في الدنيا. وحرمان في الآخرة؟. ثم. ألسنا نرى غير المؤمنين يتكالبون في هذه الدنيا على تحقيق شهوتين لا أكثر: شهوة البطن. وشهوة الفرج، في سبيلهما يغدون ويروحون، ويكدون ويتعبون، بل ويقتلون وينهبون، لا يبالون بحلال أو حرام بل يحلون في سبيلهما الحرام، ويحرمون الحلال بقوانين وضعية تمليها عليهم شهواتهم! حتى أصبحنا نرى ونسمع بتشريعات وضعية مخزية مخجلة تبيح الزنا وتسميه صداقة، وتبيح الربا وتسميه فائدة!!!... الخ.فما الغرابة إذن في أن تبيح الشريعة الإسلامية ما هو نافع ومفيد، وتحدد للمؤمنين كيفية تناول هذه المتع من حلالها فقط. ثم تعوض غير القادرين منهم عن هذا الحرمان في الدار الآخرة. فإذا هم في الدنيا يصبرون على ما تشتهيه أنفسهم مما لا يقدرون عليه أو لا يحل لهم، انتظاراً لما عند الله في الدار الآخرة: ﴿وما عند الله خير وأبقى﴾. ففي الجنة أنهار من خمر، لكنها ليست الخمر التي نعرف في الدنيا، تلك التي تذهب العقل ولا لذة فيها - فقد حدثني بعض من كان يشربها ثم تاب الله عليه أن طعمها كطعم البول ومذاقه - أما خمر الجنة فهي لذة للشاربين، وشارب الخمر في الدنيا يفقد عقله ويضيع ماله، ويقع في كل ما حرم الله تعالى من قتل وسرقة وزنا، بل ربما يقع على بعض محارمه! فلا خير في شيء حرمه الله أبداً، أما شارب خمر الجنة فهو يشربها بإذن من خالقها ومنشئها سبحانه ولا شرَّ في شيء أباحه الله أبداً. ولأن الجزاء من جنس العمل. فاشرب خمر الدنيا التي حرمها الله تعالى ستحرم من خمر الجنة التي أعدها الله للمتقين. وشتان ما بينهما! شتان ما بين خمر يبذل صاحبها ماله وعقله ومروءته، ليحصل منها على كأس بيد ساقطة تورثه ضيقاً في الرزق، وهماً في القلب، ونكداً في العيش، وبين ﴿أنهار من خمر لذة للشاربين﴾، ليس هذا فقط بل "وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات"! ومع ذلك كله، وقبله، وبعده، مغفرة ورضوان من الله عز وجل، تلك المغفرة التي كانت العامل الأساسي في دخولهم الجنة، والتي لولاها ما دخلوا الجنة، إذ لا يخلو إنسان من ارتكاب بعض المعاصي والذنوب التي قد تحول بينه وبين الجنة، لولا مغفرة الله عز وجل وعفوه! وبعد هذا العرض السريع لذلك النعيم المقيم، تأتي الصورة المقابلة في وصف أصحاب الجحيم، في سياق مقارنة تبرز الفارق الكبير والبون الشاسع بين الفريقين، فليس أصحاب هذا النعيم: "كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم"!!!. وسيأتي بالتفصيل –إن شاء الله تعالى- بيان أهوال الجحيم، وإنما عمدنا إلى هذه الإشارة لئلا تفقد المقابلة تأثيرها، ولئلا يضيع رونق بلاغتها، وحتى تكون الصورة متكاملة فيستحضر كل منا حال الفريقين: ﴿تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار﴾.
المشهد السادس
قال تعالى: ﴿وأُزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب، ادخلوها بسلام، ذلك يوم الخلود، لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد﴾ق31-35. بينما تبرز الجحيم للغاوين، تقرب الجنة للمتقين، ولقد أصبحت الجنة حقيقة لا تقبل الشك، ولم يعد أمرها بعيداً، بل صار مشاهداً معايناً: ﴿للمتقين غير بعيد﴾. ولقد أنجز ربنا سبحانه وعده لمن أوفى له سبحانه بعهده: ﴿ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً﴾ و ﴿هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ﴾ أي لكل تائب مقلع عن الذنوب رجاع إلى الحق يحفظ العهد فلا ينكثه، ولا يكون الإنسان أواباً حفيظاً حتى يخشى الرحمن بالغيب، فيخاف الله عز وجل حيث لا يراه أحد كما يخشاه سبحانه حيث يراه كل أحد، فلصدق إيمانه استوى ظاهره وباطنه خلافاً للكاذبين المنافقين الذين يظهرون غير ما يضمرون، ويقولون ما لا يفعلون، وليس معنى ذلك أن الأواب الحفيظ لا يخطئ أو لا يذنب. كلا بل يخطئ ويذنب ولكنه سرعان ما يرجع وكلما غلبته نفسه فأذنب بادر إلى التوبة، فهو من المنيبين: ﴿والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم﴾ . يأتي ربه يوم القيامة بقلب سليم منيب خاضع له سبحانه، ويدخل جنة ربه سالماً من عذابه سبحانه، تسلم عليه الملائكة من كل باب.هذا النعيم وهذا الأمن والسلام خالد لا يفنى، بل إن لأصحاب الجنة كل ما يشاءون، ومهما طلبوا وتمنوا من ملاذ ونعيم أوتوه في الحال، حتى أن أحدهم ليتمنى الطير في الجنة فيخر بين يديه مشوياً "لهم ما يشاءون فيها ...." ليس هذا فقط. بل قد يقصر خيال الإنسان عن تصور مدى النعيم الذي أعده ربنا سبحانه لعباده المؤمنين، ولكن الله العظيم الكريم يمن بفضله على عبده بمزيد من النعيم "ولدينا مزيد"! فبينما المؤمنون فكهون مشغولون بألوان النعيم المتنوع المتعدد، المستمر المتجدد، من حور عين وفاكهة كثيرة، ولحم طير مما يشتهون، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، كل ذلك وزيادة في صحاف من ذهب وبينما هم بذلك مشغولون يأتيهم هذا النبأ الإلهي "ولدينا مزيد"!!! فتأخذهم الدهشة! أبعد هذا كله. ما يزال هناك من مزيد؟!. ونرى. ماذا يكون هذا المزيد؟! ولا تطول دهشتهم حتى يكشف الحجاب وإذا هم يرون ربهم عياناً كما يرى أحدهم البدر ليلة التمام لا يضار برؤيته! فنعم المزيد، وهل هناك نعيم أعظم من ذلك؟ فليهنهم فضل الله تعالى عليهم: ﴿وهي يومئذ ناضرة إلى ربها ناضرة﴾ وقبل أن نسدل الستار على هذا المشهد، فلننظر هناك إلى الصورة المقابلة: ﴿ووجوه يومئذ باسرة. تظن أن يفعل بها فاقرة﴾! فيا لرحمة الله.
المشهد السابع
قال تعالى: ﴿اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم﴾ الحديد 20/21. هذه هي الحياة الدنيا، بكل ما فيها من لهو ولعب وزينة وتفاخر...! وهذا هو مثلها ﴿كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً﴾! وهذا المثل مشاهد في حياتنا اليومية، فلا يكاد يمر يوم حتى نراه عياناً في النبات، وفي الإنسان كذلك، فقد خلق في ضعف ثم تقلب في قوة يليها ضعف: ﴿فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً﴾. وحياة هذا شأنها لا قيمة لها مهما يكن فيها من لعب ولهو وزينة، لأنها فانية بحلوها ومرها، وخيرها وشرها "فأهون بدنيا لا تدوم على فن"! "وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان" وآخرة هذا شأنها هي الحياة الحقيقية: ﴿وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور﴾. وبعد هذا البيان الإلهي البليغ الوجيز لحقيقة الحياتين: الدنيا والأخرى، تأتي الدعوة إلى التنافس الشريف من أجل الحياة الحقيقية والنعيم الأبدي: ﴿سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض﴾. ولا ينبغي –ونحن في أوائل الألفية الثالثة- أن نسمع هذا السؤال السخيف: "إذا كانت هذه هي الجنة. فأين تكون النار؟ وقديماً سأل بعض الملاحدة الإمام الشافعي -رحمه الله- هذا السؤال فأجابهم يقول الله تعالى: ﴿يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات﴾. وقد سبق أن رأينا كيف تقلب الموازين في هذا اليوم العظيم، ويخرج كل شيء فيه عن نطاق العقل العاجز والتصور القاصر! ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ و﴿إذا السماء انشقت... ﴾و ﴿إذا الأرض مُدتْ وألقتْ ما فيها وتخلت﴾و ﴿إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت ....﴾ فدع عنك إذن هذه التساؤلات اللاهية، خاصة وأن العلم الحديث بل المعاصر جداً يقول: إنه في كل يوم تختفي ملايين النجوم إلى الأبد، وتظهر ملايين أخرى فأين ذهب التي اختفتْ؟ ومن أين جاءت التي بدتْ؟ هذا ما لم ولن يجيب عليه العلم مهما أوتي من سلطان! ألم أقل لك. دع عنك هذه التساؤلات اللاهية، واعمل لجنة "عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله" آمنوا إيماناً صادقاً حقيقياً، قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، إيماناً يحجزهم عن معاصيه، ويدفعهم لطاعته سبحانه، كما آمنوا برسل الله جميعهم دون استثناء، واتبعوا آخر رسله صاحب آخر رسالات السماء، الذي أنزل الله عليه القرآن الكريم، المعجزة الخالدة الباقية الدالة على صدق دعوته ورسالته ونبوته r الذي جاء مصدقاً لإخوانه الذين سبقوه من الرسل عليهم السلام. فمن فعل ذلك وآمن واتبع، كان من أهل المغفرة والرضوان و"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم". "ومن كفر فإن الله غني...... "
المشهد الثامن
قال تعالى: ﴿زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب، قل أؤنبئكم بخير من ذلك، للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة رضوان من الله، والله بصير بالعباد. الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار﴾ آل عمران 14/16. هل شيء غير ذلك متاع الحياة الدنيا؟ وهل يشغل الناس المتكالبين عليها، المتقاتلين فيها شيء غير حب الشهوات "من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث"؟ ولكن. أهذا هو النعيم الحقيقي؟ أهذا هو النعيم الباقي؟ أم أنه إلى زوال طال عمره أم قصر؟. ولسنا بحاجة إلى التدليل على زواله، فهذا هو الواقع المشاهد الذي لا ينكره عاقل مسلماً كان أم غير مسلم، حيث نرى الموت يعتام الكرام ويصطفى عقيلة مال الفاحش المتشدد!. فما الحل؟ بل ما الحيلة إذن؟ ما ذا يصنع أولئك الذين يريدون متاعاً حقيقياً دائماً أبدياً، لا ينغصه كدر، ولا يغتاله موت؟. والجواب واضح لمن صفا قلبه وذكا عقله! حيث لا يكون ذلك إلا في الحياة الآخرة، حيث ثبت قطعاً استحالته في الحياة الدنيا. ولنستمع معاً إلى القرآن العظيم وهو يدلنا على الطريق: ﴿قل أؤنبئكم بخير من ذلكم، للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله﴾ فهذا هو الخير بل الخير كله والنعيم كله، ألا يكفيك أنه خالد أبدي؟! ولكن لهذا النعيم ثمنه، وذلك الثمن تبذله الآن في الحياة الدنيا، وهو أمر في متناول الجميع وإن كان غالياً: "ألا إن سلعة الله غالية. ألا إن سلعة الله الجنة"، وهذه الجنة لا تُكلِّفك غير طاعة لله عز وجل ولرسوله r واستقامة على منهج الله تعالى وشرعه في كل شيء، وليس فقط فيما تهواه نفسك، وإلا أصبحت مطيعاً لهواك لا لمولاك! فإذا فعلت فآمنت بالله ثم استقمت.جعل الله لك خيراً من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة و...، جعل الله لك جنات تجري من تحتها الأنهار، لا يخاف المؤمنون زوالها لأنهم خالدون فيها، يصحبهم من الله رضوان، وخازنها رضوان. فهم يتقلبون في الرضوان!. ولئن كان أرغب شيء للنفس في الدنيا النساء، فهن في الجنة ولكن أبهى وأجمل! ففي الجنة أزواج مطهرة من حور عين، قاصرات الطرف كأمثال اللؤلؤ المكنون: "لو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً، ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها (تاجها) على رأسها خير من الدنيا وما فيها". رواه البخاري. بل إن خدها أصفى من المرآة، وإنهن ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط، وإن مما يغنين:

أزواج قوم كرام

نحن الخيرات الحسان


ينظرن بِقُرةِ أعيان



وإن مما يغنين به:

نحن الخالدات فلا يمتنه

نحن الآمنات فلا يخفنه

نحن المقيمات فلا يظعنه


رواه الطبراني وصححه الألباني. وليس غناؤهن بمزمار الشيطان، ولكن بتحميد الله وتقديسه. رواه الطبراني وصححه الألباني. وفوق ذلك النعيم كله، فقد فاز المؤمنون برضوان من الله أكبر: ﴿والله بصير بالعباد. الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار﴾.ولا يتوهمن أحد أننا نمنع الناس من التمتع بما أحل الله تعالى من نساء الدنيا وأموالها وسائر متعها الحلال! كلا. بل لا يملك أحد أن يحرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وإنما نشير إلى أمرين:
الأول: لا ينبغي أن يشغلنا هذا وإن كان حلالاً عن النعيم الحقيقي الخالد الأبدي، والذي لا مثيل له في نعيم الدنيا بأسرها.
وأما الثاني: فإن الكثير من الناس قد انغمس في الحرام، وانشغل بهذا المتاع الزائف العاجل عن المتاع الحقيقي الآجل، فخسر الدنيا والآخرة!! ﴿قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة﴾ ، ﴿وما عندالله خير وأبقى﴾﴿وتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض لا فساداً والعاقبة للمتقين﴾. غير أن هؤلاء الحمقى يخسرون جنات "أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ..." ولمجرد متعة عابرة، أو نزوة آثمة، يخسرون: "جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله أكبر". وذلك هو الخسران المبين!!!.
المشهد التاسع
قال تعالى: ﴿فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً، وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً، ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريراً. قوارير من فضة قدروها تقديراً، ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً، عيناً فيها تسمى سلسبيلاً، ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً، وإذا رأيت ثم رأيت. نعيماً وملكاً كبيراً، عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق، وحلوا أساور من ذهب وسقاهم ربهم شراباً طهوراً، إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً﴾ الإنسان . وهكذا تجتمع كل صنوف النعيم وتتداخل على هيئة تجعل المؤمن حائرا فيما بينها، يريدها كلها ولا يدري بأيها يبدأ! ولا تظهر قيمة هذا النعيم إلا بعرض سبق لصورة من أهوال الجحيم: "إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيراً"، فإذا المؤمن يتقلب في نوعين من رحمة الله تعالى عليه. الأول: نجاته من الجحيم ومن عذاب جهنم ذات السلاسل والأغلال والسعير. "فوقاهم الله شر ذلك اليوم"، والثاني: فوزه بالجنة ذات النضرة والسرور "ولقاهم نضرة وسروراً". فإذا ما عاين أهوال الجحيم عرف قدر هذا النعيم، وبضدها تتميز الأشياء. حتى إذا سكنت نفسه واستقر في الجنة روحاً وجسداً ورأى من فضل الله تعالى عليه ما لا يحصى ولا يعد، بدا حائراً، يريد كل شيء ولا يدري بم يبدأ، فهو أشبه بجائع استبد به الجوع وفجأة بسطت له الموائد وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، غير أنه لكثرة ألوان الأطعمة وصنوف الفواكه لا يدري ما يأكل وما يدع، ولا من أين يبدأ؟!!. ولا يكفكف من حيرة المؤمن في الجنة إلا يقينه أنه خالد في هذا النعيم وأنه سيصيب من جميعه حتماً: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم". "فوقاهم الله شراً أعظم من ذلك، فمن جهنم وقاهم، وبالنعيم حباهم "ولقاهم نضرة وسروراً" فهو إذن نعيم الظاهر وسعادة الباطن، فوجوههم نضرة ناعمة، وقلوبهم مسرورة راضية، جاء كل شيء حولهم على ما يريدون، ووفق ما يشتهون، فالجنة مسكنهم، والحرير ملبسهم والأرائك متكؤهم، والذهب والفضة آنيتهم، والزنجيل مع الكافور شرابهم، "وإذا رأيت ثَمَّ. رأيت نعيماً ملكاً كبيراً"، فالأمر إذن أكبر من أن نتخيله! فيكفي أن نعلم أنه نعيم وملك كبير، دون أن نسأل عن كنهه ولا كيف يكون، فـ"إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه"!. وقيل أن نغادر آيات النعيم من سورة الإنسان، نرجع معاً إلى الدنيا، ثم نبحث عن أنعم أهلها، بل عن أنعم أهل الدنيا مجتمعين. هل يعد نعيمهم شيئاً في هذا النعيم؟ والجواب بالنفي قطعاً، بل يستحيل عليهم مجتمعين أن يجدوا في الدنيا بعض هذا النعيم! فإن قدروا على الحرير وآنية الفضة وثياب السندس والإستبرق وأساور الذهب، فهل يقدرون على غيره والذي هو لب هذا النعيم؟ هل وقوا شر ذلك اليوم وجحيمه؟ هل لقوا النضرة والسرور؟ أم أنهم رغم ما يتقلبون فيه من زينة الدنيا أتعس الناس حالاً وأضيقهم صدورا وأظلمهم قلوباً. يدل على ذلك إحصائيات المصحات النفسية والعصبية والعقلية، ونوع زبائنها، ويدل على ذلك المخدرات بكل أنواعها، وأن هؤلاء المترفين هم بأعيانهم أكثر مدمنيها، وليس آخر هذه الأدلة أعداد المنتحرين وأن لهم نصيب الأسد فيها! فإذا افترضنا جدلاً. أنهم في نضرة وسرور، فهل سقاهم ربهم شراباً طهوراً. و هل ناداهم منادى ربهم "وكان سعيكم مشكوراً"؟ وهل ما هم فيه من ترف باق أبداً؟ أم أنه زائل حتماً لا ينتطح في ذلك عنزان؟! فإذا ما أفضوا إلى ما قدموا، لم يجدوا بين أيديهم عملاً صالحاً، وبينما هم في الفزع والوجل ينتظرون ما يفعل بهم، لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم بل ولا آلهتهم المزعومة من الله شيئاً، وإذا هم بمناد من قبل الجبار: "إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيراً فيعتصرون حسرة وهما وغما لماهم مقدمون عليه، ولكن حسرتهم تبلغ مداها حين يعلمون مقدار النعيم الحقيقي الذي حرموا من حين يسمعون المنادى يسترسل ويقول: ﴿إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً. عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً.﴾
المشهد العاشر
قال تعالى: ﴿وجوه يومئذ ناعمة. لسعيها راضية، في جنة عالية، لا تسمع فيها لاغية، فيها عين جارية، فيها سرور مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة﴾. الغاشية.
هذه الوجوه الناعمة، تأتي في مقابل الوجوه الذليلة الخاشعة، فبينما المؤمنون في جنة عالية، ننظر هناك لنرى وجوه الكافرين تصلى ناراً حامية! وبهذه المقابلة تكتمل صورتان بينهما بعد المشرقين!، حيث نرى صورة العذاب بأقسى أنواعه لأصحاب الجحيم، تقابلها صورة النعيم بأجمل أوصافه لأصحاب الجنة. فـ:

إذا كنت في نعمة فارعها

فإن المعاصي تزيل النعم


وفي حياتنا نجد الفرق بين البائس المعتر، وبين الغنى المغتر، في ملمس كليهما، فالأول خشن الملبس خشن المطعم خشن الملمس، بينما كل شيء في الثاني ناعم! ناعم ملبسه ناعم مأكله، ناعم ملسمه! وأقصى ما يصفون ترفه هذا حين يكون فيه طارفاً وتليداً أن يقولوا "ولد وفي فمه ملعقة من ذهب"! فكيف بالمؤمنين في الجنة وهم يتقلبون في الذهب: "يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون".هذا المؤمن الذي ربما لم يذق للراحة طعماً، وربما طوى كشحه على ملهبة الجوع ومغضبة الظلم، لكنه صبر إذ عضه الفقر بنابه، والتجأ إلى ربه فوقف ببابه، لا يسأل غيره ولا يرجو سواه، حتى إذا جاء يوم القيامة غمس في نعيم الجنة غمسة واحدة ثم سئل: عبدي هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: كلا ما رأيت بؤساً قط!!!. إنه لا يكذب ولا يتجمل، ولا يكون له ذلك. ولكنه النعيم الذي لا يوصف وقد أنساه كل بؤسه وشقائه الذي كان. تلك: "وجوه يومئذ ناعمه. لسعيها راضية" ولقد كانوا في الدنيا يفخرون عليه بشاليهات على شواطئ البحار، أو بمنازل تشرف ولو من بعيد على بحر، بينما لا يجد هو قوت يومه، ولا يؤيه غير كوخ لا يمنع عنه حراً ولا زمهريراً يقتسم اللقمة مع أولاده بل ربما زهد فيها ليقسمها بينهم، ولكنه صبر واحتسب، فما امتدت عينه إلى حرام، ولا اقترفت جوارحه أي آثام، حتى لقي ربه راضياً مرضياً، فإذا هو "في جنة عالية لا تسمع فيا لاغية، فيها عين جارية، فيها سرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفه، وزرابي مبثوثه"، كل هذا النعيم هو لهذا العبد المؤمن الذي كان في الدنيا لحر وما صابرا قنوعا: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم". وهنا يحضرني حوار مع رجل يدعي الإسلام وقد فوجئت به يوماً يقول: إن نعيم الجنة معنوي فقط وليس حسياً! وعندما أنكرت عليه زعمه ذلك احتج بحديث صحيح، ولكن أين منه فهمه السقيم؟! حيث احتج بقوله صلى الله عليه وسلم يصف الجنة: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" وهو يرى إن صح أن مثله يرى أن قوله صلى الله عليه وسلم "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت" دليل على أن هذا النعيم معنوي بدليل أنه –على زعمه- لا يُرى ولا يسمع، فليس إذن حسياً ولا مادياً!. فقلت له: يا هذا. ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم: "فيها" وهي للظرفية المكانية فدلت على وجود شيء حقيقي في الجنة. كقولك: الماء في الإناء. ثم ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم يقول: "رأت.. سمعت خطر" بصيغة الماضي، وهذا يعني أن المؤمن في الجنة سيرى نعيماً وملكاً كبيراً، ما رأى ولا سمع بمثله حين كان في الدنيا بل ولا خطر على قلبه أي في تصوره شيء مثله، فما ورد في الحديث هو باعتبار ما كان في الدنيا. ثم كيف تصنع بعشرات الآيات والأحاديث الدالة على وقوع نعيم وعذاب حسيين ماديين في الآخرة لقوله تعالى: "فيها عين جارية، فيها سرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة" فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أصحاب الوجوه الناعمة، وأن ينعم علينا برحمته، وأن يستعملنا في عمل صالح يقبضنا عليه ويرزقنا به جنة "نزلاً من غفور رحيم" ... آمين.
المشهد الحادي عشر
قال تعالى: ﴿ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً﴾. النساء 124 ومرة أخرى تؤكد الآية كما في عشرات بل مئات الآيات أن دخول الجنة مرهون ومشروط بالعمل الصالح الخالص لله عز وجل، ويكون العمل كذلك إذا اجتمع له شرطان، أولهما أن يكون موافقاً لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وثانيهما: أن يكون خالصاً لله تعالى بلا رياء ولا سمعة. فمن استوفى هذين الشرطين: "فأولئك يدخلون الجنة" رجالاً كانوا أم نساء، ذكراناً كانوا أم إناثاً إنساً كانوا أم جِنَّاً - على الصحيح - فليس هذا هو المقياس، بل المقياس والأساس هو إيمانهم وعملهم الصالح! وأما الذين يزعمون أن للمرأة عندهم مكانة متميزة، وأن لها حقوقاً لا تجدها عند غيرهم، وأنهم يطالبون بتحرير المرأة زاعمين أن هذا التحرير هو لنصفتها من الظلم الذي يزعمون! إلى كل هؤلاء نقول: كفاكم كذباً وزيفاً وخداعاً وتضليلاً. وكفى دليلاً على كذبكم ما وصلت إليه المرأة اليوم على أيديكم من درك لم تعرف في تاريخها أسفل منه، وليس المقام الآن لتفنيد دعاواكم ودحض أكاذيبكم فيما يتعلق بالمرأة - أما - أختا -بنتا - زوجة ..." غير أن ورود ذكرها هنا في مقام هو من أسمى المقامات. مقام تتضاءل أمامه جميع وعودكم –على فرض صحتها أو صدقها- هذا المقام هو الجنة التي وعد الله تعالى لمن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن هو الذي دعانا إلى هذه الإشارة العابرة أذلك خير نزلاً أم ما تدعونها إليه؟! أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم؟!
ويا أختاه: هؤلاء يدعونك إلى النار. والله يدعوك إلى الجنة: ﴿ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا﴾.
وأخيراً: أيها العاقل:
بعد أن علمت جانباً من نعيم الجنة، فهل أنت مستعد للتخلي عنها؟ وإن فعلت هل تكون عاقلاً، وهل هناك شيء يستحق أن تضحي بالجنة من أجله؟ وما هو ذلك الذي تستبدله بجنة عرضها السماوات والأرض "ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام" يدخلها المؤمنون "وجوههم على صورة القمر ليلة البدر" "لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، أزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد. على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء" "لكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن... يسبحون لله بكرة وعشيا" جنة يدخلها أهلها: "جردا مرداً مكحلين بني ثلاث وثلاثين" جنة بها "مائة درجة ، ما بين كل درجتين، كما بين السماء والأرض" خلقها الله: "بيده، ولى فيها ثمارها، وشق فيها أنهارها" بناؤها "لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وبلاطها المسك، ، وترابها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت" فيها الكوثر. وما أدراك ما الكوثر: "ذاك نهر أعطانيه الله –يعني في الجنة- أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزر...." ما فيها شجرة "إلا وساقها من ذهب" . "من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه" جنة ترى أهلها: "متكئين على فرش بطائنها من استبرق...." قال ابن مسعود رضي الله عنه: "قد أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهائر".
أيها العقلاء! هل من العقل أن تفرطوا في جنة يرى المؤمنون فيها ربهم، فيتم لهم النعيم، بل لو لم يكن غير هذا الفضل لكفى! قال الله تعالى: ﴿وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أناساً قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله r "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترونه كذلك". وعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: "إذا دخل أهل الجنة يقول الله عز وجل: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطو شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم، ثم تلا هذه الآية: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة"
والآن: "ألا هل مشمر إلى الجنة! فإن الجنة لا عِدْل لها. هي ورب الكعبة نور كلها يتلألأ، وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحُلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سلامة، وفاكهة خضرة، وخير ونعمة في محلة عالية بهية"؟
وهل سنقول كما قال الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله rحين سألهم هذا السؤال حيث قالوا: "نعم. يا رسول الله نحن المشمرون لها". قال r قولوا: إن شاء الله" فقال القوم: "إن شاء الله" رواه ابن ماجة/ انظر مختصر تفسير ابن كثير جـ3 صـ66.
ونحن نقول : "إن شاء الله".
اضافة رد مع اقتباس